مصر: بناء دستوري جديد أم دلالة على التوسع العمراني

عربي ودولي
قبل 3 سنوات I الأخبار I عربي ودولي

حرّك الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مياه السياسة الراكدة في بلاده بعد إعلانه عن ميلاد “جمهورية ثانية” في افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة، لكن ذلك الإعلان كان محل تفسيرات عديدة لعدم وضوح الرؤية الكاملة حول شكل الجمهورية، وما إذا كان يعبّر عن انتقال سياسي ودستوري أم أن الأمر يقتصر على التمدد العمراني الحاصل في مصر.

تحدث السيسي على هامش الندوة التثقيفية التي عقدتها القوات المسلحة، الثلاثاء الماضي احتفاء بيوم الشهيد، وأصرّ على أن الموضوع “ليس مباني فقط”، وأن افتتاح العاصمة الإدارية يعتبر ميلاد دولة جديدة، فهي بمثابة “إعلان جمهورية ثانية”، مؤكدا أن انتقال الحكومة إلى هذا المقر، وتحرك كل المحافظات إليها يهدف إلى أن يكون التطور في جميع المجالات.

مخطط عمراني يأخذ مصر إلى المستقبل

وأخذ إعلان السيسي أبعادا سياسية عديدة، لأن العاصمة الإدارية الجديدة تشكل رمزية حضارية مهمة ودلالة على الانتقال من ماض عانت فيه الدولة من رخاوة أمنية بفعل حراك الشارع وتأثيراته إلى استقرار دحض محاولات استهدفت إعادة العجلة إلى الوراء.

وتمثل العاصمة الإدارية التي ربطها السيسي ببناء جمهورية ثانية مشروعا تنمويا، أصر عليه وتجاوز اعتراضات وتحذيرات عديدة، ويبرهن إنجازها وانتقال أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية إليها، أن النظام تمكن من مجابهة التهديدات الوجودية لمؤسسات رسمية مختلفة منذ ثورة يناير 2011 ومرورا بفترة حكم الإخوان لمدة عام، وينتقل الآن إلى مرحلة تثبيت الأركان على أسس جديدة.

وتقع العاصمة الإدارية الجديدة على بعد 75 كيلومترا شرق القاهرة، وتقدر تكلفة المشروعات فيها بنحو 300 مليار دولار، ومن المقرر أن يبدأ التشغيل التجريبي للمباني الحكومية من خلال موظفين يتم نقلهم تباعا للتأكد من توافر الاحتياجات اللازمة لكل المباني.

وتضم العاصمة الجديدة مدينة المال والأعمال، وهو مركز يخدم القاهرة الكبرى ومحافظات قناة السويس الثلاث (بورسعيد، الإسماعيلية، السويس)، وسيكون من أكبر المراكز في الشرق الأوسط ما يخدم توجه الدولة الساعية إلى دعم مستقبل نفوذها في المنطقة، بما يشكل ركيزة لمشروعاتها الاقتصادية في البحر المتوسط وتأمين الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس.

الجمهورية الأولى

في ثورة 23 يوليو من العام 1952 دشنت الجمهورية الأولى في مصر بعد الإطاحة بالنظام الملكي، وعلى الرغم من تغير الدساتير وأنظمة الحكم إلا أن البناء السياسي للدولة القائم على النظام الرئاسي لم يتغير وظل ثابتا حتى مع الإطاحة بنظامي الرئيس الراحل حسني مبارك ومن بعده الإخوان.

ويتفق العديد من السياسيين الذين استطلعت “العرب” آراءهم على أن مصطلح “الجمهورية الثانية” يعبر عن مرحلة جديدة تزامنا مع افتتاح عدد من المشروعات القومية، التي يرتكن إليها النظام الحالي في بناء شرعيته السياسية، دون أن يكون الأمر مرتبطا ببناء دستوري على الأقل في الوقت الحالي، ما يعني أن شكل نظام الحكم سيظل ثابتا دون أيّ تغيير أو تعديل.

شوقي السيد: بناء جمهورية جديدة يتطلب تغييرا في الدستور القائم حاليا شوقي السيد: بناء جمهورية جديدة يتطلب تغييرا في الدستور القائم حاليا ويوضح الخبير الدستوري شوقي السيد أن السمات العامة للعاصمة الإدارية على المستوى التكنولوجي والعمراني تتطلب أن تكون هناك قوة بشرية على الأرض تستطيع أن تتعامل مع تلك التطورات دون أن يشعر المواطنون الذين ينتقلون إليها بتبعية انتقال مؤسسات الدولة بالتغيير، فالتجربة قد يواجهها الفشل، ما يجعل صعود الجمهورية الجديدة يستهدف التلويح بأن هناك عهدا يختلف عن الحاضر والماضي.

ويضيف في تصريح لـ”العرب” أن النظام المصري يسعى إلى تحويل العاصمة الإدارية إلى ما يشبه “الموديل” أو النموذج الذي يستطيع أن يشد الصور الأخرى السابقة من الأنظمة إليه، ويلحق المواطنين الذين ارتبطوا بسياسات اقتصادية واجتماعية انتهجتها تلك الأنظمة بالتطور الحاصل بفعل إصلاحات تنموية أفضت إلى رفع يد الدولة عن دعم العديد من الخدمات.

ويؤكد شوقي السيد أن بناء جمهورية جديدة يتطلب تغييرا في الدستور القائم حاليا (دستور 2014)، والذي جرى وضعه في ظروف صعبة ومغايرة للواقع الحالي، والتقدم في العاصمة الجديدة سيكون بحاجة إلى تشريعات متطورة بالقدر الذي يضمن الوصول إلى بناء دولة حديثة، وانتقال المؤسسات شكليا بعيدا عن الوعاء الدستوري والسياسي لن يحقق الأهداف المأمولة.

ولن يصب التركيز على التنمية العمرانية وإغفال الجوانب السياسية والحقوق والحريات العامة وعدم تطوير البينة التشريعية، في صالح الدفع باتجاه إقناع المواطنين بأن هناك دولة أو جمهورية جديدة، فالأمر يتطلب تكامل جميع المجالات في آن واحد وفقاً لرؤية واضحة ومحددة المعالم.

سياق ذو وجوه متعددة

يقول حسن سلامة، أستاذ العلوم السياسية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إن حديث الرئيس السيسي يشير إلى سياق جديد له أبعاد متعددة سياسية واقتصادية وبيئية وتكنولوجية، تتضمن طريقة مختلفة لإدارة المجتمع وضبطه في إطار سيادة القانون مع تقوية سلطة الدولة في التعامل مع التفاعلات الداخلية والخارجية.

ويوضح في تصريح لـ”العرب” أن مشروع العاصمة الإدارية يُعبّر عن مصر المختلفة، الساعية إلى طرح رؤيتها بشأن التزامها بمعايير حقوق الإنسان المنسية مثل توفير حق السكن والصحة وكافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتركيز على دعم بناء الإنسان وتوفير بيئة تساعده على التقدم عبر المدن الذكية والتحول الرقمي.

وسلط سلامة الضوء على البعد الدولي للجمهورية الثانية الذي يتعلق بربط مشروع العاصمة الإدارية بخطط التنمية المستدامة التي تدعمها الأمم المتحدة للتأكيد على أن مصر لديها اهتمامات بالأجيال الصاعدة والحفاظ على حقوقها، مع عدم إهمال الأجيال القديمة التي تذهب إليها بمشروعات تطوير متباينة في البنية التحتية.

ويرى مراقبون أنه من الضروري وجود مجتمع عمراني جديد تستحدثه الحكومة، وتراعي فيه الأبعاد الاجتماعية وتأهيل البشر، وضبط تفاعلات المواطنين مع الدولة وتشكيل رؤى مشتركة بين الطرفين وفقاً لحوارات حقيقية، مع أهمية عمل الحكومة على تفسير الإطار الذي وضعه السيسي للجمهورية الجديدة وتوضيح المزيد من ملامح إدارة الدولة ووضع خطط تنفيذية يعرفها الناس ويقتنعون بها.

وكان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي عقد اجتماعا لبحث ترتيبات فعاليات افتتاح العاصمة الإدارية قبل نهاية العام الجاري، ووافق على برنامج الحوافز المقترحة، التي تُمنح للموظفين المنتقلين إلى العاصمة الجديدة، في خطوة تمهد الطريق لبدء العمل من داخل مقرات الحكومة، والمتوقع أن يشغلها بشكل مبدئي في المرحلة الأولى 50 ألف موظف.

رسائل إلى الخارج

تحمل الجهود المصرية في التعامل مع الداخل ومحاولة إقناع المواطنين بجدوى المشروع الجديد رسائل عديدة من النظام المصري إلى الخارج، مفادها أن التطور على المستوى العسكري والاستقرار الداخلي والنجاح في مشروعات التنمية يعبّر عن دولة قادرة على استعادة فاعليتها في الإقليم على أرض صلبة دون أيّ مخاوف ظلت مهيمنة على تحركات أنظمة سابقة دفعتها إلى ما يوصف بـ”الكمون الاستراتيجي”.

وتسعى الدولة المصرية إلى تقديم صورة مغايرة لها إلى الخارج تتواكب مع رغبتها في أن تكون قوة فاعلة ومؤثرة في المنطقة، ولعل ذلك ظهر في افتتاح مسجد “الفتاح العليم” الذي سيتحول إلى مركز كبير للثقافة الإسلامية و”كاتدرائية السيد المسيح” التي ستكون منارة بالمنطقة، في دلالة على ما يدور في أذهان الدولة بشأن دورها مستقبلاً.

ويقول المفكر السياسي وعضو مجلس الشيوخ، عبدالمنعم سعيد، إن الدولة تسير على خطى متوازنة على المستوى الخارجي، وتريد أن تدعم هذه الخطوات عبر بناء سياسي وتنموي داخلي يخدم تحركاتها، بعد أن نجحت في تأمين الحدود الشرقية، والأمر ذاته على الحدود الغربية مع ليبيا، والانتقال من حالة الصدام مع تركيا إلى فرض حلول دبلوماسية تتبناها القاهرة، إلى جانب تغير نظام الحكم في السودان وانعكاساته الإيجابية على إمكانية حل أزمة سد النهضة.

ويضيف في تصريح لـ”العرب” أن الحكومة المصرية انتقلت من مرحلة بناء مؤسساتها إلى اكتمال تشكيلها واستطاعت أن تعيش براحها على نهر النيل والبحرين المتوسط والأحمر وأضحى لديها وجود فاعل في سيناء على الأطراف الشمالية الشرقية، وتمكنت من القضاء على الإرهاب المنظم وبات أقرب إلى الجريمة المنظمة، ما يُعطي آفاقاً للانفتاح الخارجي.

وفي رأي سعيد أن التمدد العمراني المصري في الداخل والانتقال إلى مساحات جغرافية جديدة ظلت صحارى شاسعة طيلة السنوات الماضية يتطلب أفكارا ورؤى واستراتيجيات مختلفة يعبر عنها مصطلح “الجمهورية الجديدة”، والذي يستهدف الترويج لتجربة استطاعت أن تتعامل مع التحديات الأمنية والاقتصادية العديدة التي جابهتها عبر الجمهورية الأولى التي استمرت من العام 1952 وحتى 2011.

تفسير المعارضة

التقطت المعارضة المصرية حديث الرئيس السيسي عن الجمهورية الثانية وفسّرته على أنه ترويج لمشروعات أقدمت عليها الحكومة من دون أن يقتنع بها المواطنون، ودعّمت فكرة أن إقامة الجمهوريات تقاس بمنظومة القيم السياسية والدستورية الجديدة وليس من خلال المنشآت الجديدة.

وعلق نائب الرئيس المصري السابق محمد البرادعي على تويتر، “في السياسة والقانون: تصنيف الجمهوريات يرتبط بتغيير شامل لشكل نظام الحكم والدستور، وهو عُرف فرنسي، حيث تعيش فرنسا الآن ما يسمّى الجمهورية الخامسة منذ عام 1958. ما زلنا في مصر نعيش بامتياز في ظل الجمهورية الأولى منذ عام 1954. تغيرت الدساتير ولكن ما زال نظام الحكم واحداً”.

ويوضح عمرو الشوبكي، الخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن الحديث عن الجمهورية الثانية لا بد أن يكون مرتبطاً بمشاريع سياسية ورؤى وأسس دستورية، وتصريح السيسي يُفهم منه على أنه تأكيد على قيم العمل والإنجاز في ظروف اقتصادية صعبة تشكل أساس مرحلة تمكّن المواطنين من الانتقال إلى جمهورية جديدة.

ويشير في تصريح لـ”العرب” إلى أن تسليط الضوء على انتقال المؤسسات إلى بقعة جغرافية ينبغي أن يركز على إصلاحها ورفع كفاءتها، بل وتغيير الأسس التي قامت عليها ودعمت البيروقراطية الحالية، بعد أن نجح النظام في الحفاظ على تلك المؤسسات وانتهاء التحديات الوجودية المهددة لها.

وبحسب العديد من السياسيين فإن حالة الإجماع التي تبدو واضحة على وجود إنجازات تنموية على الأرض، بالرغم من اختلاف وجهات النظر حول خطط التنمية الاقتصادية التي يتبناها النظام الحالي والنقاش المستمر حول أولويات العمل، وما إذا كان من المفترض التركيز على المشروعات القومية أولاً ودعم المشروعات المتوسطة والصغيرة، يدعم توظيف افتتاح العاصمة الجديدة للتأكيد على أن البلاد تدخل عهداً جديداً في المضمون الحقيقي لمكونات الدولة.

ويؤكد رئيس حزب الإصلاح والتنمية (معارض) محمد أنور السادات، والذي اعتبر أن النظام الحالي من حقه أن يدفع نحو تقديم العاصمة الإدارية للرأي العام المحلي والعالمي باعتبارها نقلة حضارية تمهد لبناء دولة جديدة، حتى وإن كانت معالم هذه الدولة غائبة ومن دون أن تقدم المؤسسات المعنية تفسيراً واضحاً لدلالات تصريحات الرئيس التي أثارت لغطاً بين المعارضين والمؤيدين.

وشدد في تصريح لـ”العرب” على أن النظام المصري أمام فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة مع المعارضة والانفتاح بشكل أكبر على الأحزاب وإتاحة حرية العمل لها على الأرض، بعد أن زالت الكثير من التحديات والهواجس التي سيطرت على عقل الدولة وأن استقرار الأوضاع يتطلب إعادة بناء الثقة بين الحكومة وجميع مكونات المجتمع المدني التي لديها يقين بأهمية التوسع العمراني.