أعادت صفقة شراء الشركة المالكة لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية مجلة العلوم والتكنولوجيا الأسبوعية الشهيرة “نيو ساينتست” بمبلغ 97.87 مليون دولار، الاعتبار لقيمة النشر العلمي الشعبي.
وقال لورد روثرمير رئيس مجلس إدارة “ديلي ميل” و”جنرال تراست” إن “مجلة نيو ساينتست لها شهرة عالمية ويحبها القراء، ونحن سعداء وفخورون بالترحيب بها في عائلة دي أم جي تي DMGT”.
وتأسست المجلة عام 1956 من أجل كل المهتمين بالاكتشافات العلمية وتأثيراتها الاجتماعية وتقريب الأخبار العلمية لعامة الناس.
ويبلغ معدل توزيع المجلة الأسبوعي حوالي 120 ألف نسخة، الأمر الذي يكشف أهميتها بالنسبة إلى القراء، ومن المتوقع أن تحقق صفقة الشراء أرباحًا بقيمة سبعة ملايين إسترليني وإيرادات بأكثر من عشرين مليون إسترليني هذا العام.
ويقع مقر المجلة البالغ عمرها 65 عامًا في لندن، ولها مكاتب في الولايات المتحدة وأستراليا، لكن جمهورها من مختلف أنحاء العالم، وتخطى عدد قرائها المتفاعلين على الإنترنت الخمسة ملايين قارئ في يونيو 2020، والعدد في ازدياد مستمر.
كما تنقل عنها وكالات الأنباء والصحف اليومية بشكل دائم تقارير ودراسات وتصريحات، الأمر الذي عزّز انتشارها بين القراء والمهتمين بالأخبار العلمية.
انطباع إيجابي
وفي الوقت الذي يحظى فيه العلم بمكانة مرموقة بين الجمهور فإنه من غير المستبعد أن تلعب هذه الصفقة دورا أساسيا في استعادة “ديلي ميل” ثقة قرائها والحد من وقع أزمة كورونا التي أدت إلى تسريع المرحلة الانتقالية التي تشهد موت الصحف الورقية، خاصة أن “نيو ساينتست” تتمتع بمكانة رفيعة بين جمهورها العريض، الذي يحمل انطباعا إيجابيا عما تنشره من أبحاث ودراسات وأخبار.
ويعيش العالم عهدا استثنائيا من الاكتشافات العلمية، من شأنه أن يزيد الاهتمام بالمقالات العلمية المنشورة، ويزيد شهية الجمهور لمتابعة آخر التطورات في العلوم والتكنولوجيا، والبقاء على اطلاع مستمر.
وابل من المعلومات المضللة ويبدو أن التواصل مع عامة الناس بات يمثل قضية ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى العلماء والمؤسسات العلمية ووسائل الإعلام لمواجهة وابل مستمر من المعلومات المضللة، من جهات عديدة بمن في ذلك جماعات الضغط التجارية والأصوليون.
ووجدت دراسة أجرتها جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية أن المواطنين المطّلعين علميا هم الأكثر قدرة على اتخاذ قرارات أفضل في حياتهم الشخصية. ومع ذلك تبقى نسبة كبيرة من البحوث والاختراعات غير معروفة لدى الجمهور. ولذلك لا تتحقق فوائدها بشكل كامل.
أما على الصعيد العالمي فيمكن أن تتأثر السياسة العامة للبلدان بالرأي العام، فإذا كان المواطنون على علم أفضل بالتقدم العلمي سيتمكنون من اتخاذ قرارات أفضل تؤثر إيجابيًّا في مدنهم ودولهم.
وعادة ما يعود المتخصصون إلى تجربة عالم الفيزياء الراحل ستيفن هوكينغ لكونه قرّب المعلومات العلمية إلى القارئ العادي، ويتخذونه مثالا في النشر لعامة الناس وليس للباحثين والأكاديميين في المختبرات العلمية.
وكان هوكينغ قد أصدر كتابا يحمل عنوان “موجز تاريخ الزمن” محاولا فيه تبسيط الأفكار الفيزيائية عن نشأة الكون ومصيره، دون أن يخوض في المعادلات الرياضية التي لا يفهمها القارئ العادي، وألفه بلغة يفهمها عامة الناس، محاولا من خلاله أن يقدم للقارئ معلومات أساسية عن الثقوب السوداء والمادة ولماذا يوجد الكون، وهي أسئلة يرى هوكينغ أن معظم الناس يجيبون عنها بـ”هزة بالكتف”.
وتعرض العالم الفيزيائي في كتابه إلى المكان والزمان مقارنا مختلف النظريات العلمية حولهما، وقد دعم ذلك برسوم بيانية توضيحية.
وحقق الكتاب أفضل المبيعات، رغم أنه ليس من الممكن معرفة عدد الأشخاص الذين تمكنوا بالفعل من قراءته حتى النهاية، ومع ذلك فقد منح غير العلماء والأكاديميين فرصة اكتشاف عوالم الكون والنظريات العلمية، والتعرف إلى أصل هذه النظريات، وهو ما قد يساهم بشكل كبير في جعل الأشخاص العاديين يقدمون إجابات أكثر وضوحًا حول الأسئلة المعتادة التي يطرحها عليهم أطفالهم، كما يناسب الكتاب لبساطته المولعين بالتاريخ، إذ تطرق فيه هوكينغ إلى حوادث تاريخية متعلقة بالفيزياء التي حولها الكتاب من علم معقد إلى آخر بسيط يناسب الجميع.
وينظر إلى تجربة عالم الفيزياء الإيطالي لودوفيك هنتر– تيلني على أنها أقرب إلى الجمهور، إثر إصداره كتابه الشهير “سبعة دروس مختصرة في الفيزياء” الذي جعل القارئ العادي لا يقلب الصفحة لمجرد أنه وجد كلمة فيزياء مثلا.
ونجح تيلني بأفكاره اللامعة في إثارة اهتمام القراء وهو يعرض شيئا جديدا عن الفوتونات والبروتونات والثقوب السوداء الساخنة والزمن غير المتصل، مثلما جعل القارئ العادي يعرف الفرق بين H2O وC2H6O، فالأول رمز الماء الكيميائي الذي عرفه الصغار في المدارس ونسيه الكبار في لجة الحياة، والثاني هو الرمز الكيميائي للنبيذ.
وندد لودوفيك هنتر– تيلني في حوار سابق مع صحيفة فايننشيال تايمز بـ”سوء الفهم وعدم الثقة بالعلوم التي يظهرها جزء مهم من ثقافتنا المعاصرة”.
عالم يعاني من التضليل
وفي عالم يعاني من التضليل يشعر العديد من العلماء والمؤسسات العلمية اليوم بالحاجة إلى تبسيط العلوم والمعلومات التكنولوجيا لعامة الناس وتوضيح المعلومات الخاطئة التي يحتمل أن تشكل خطورة عليهم أو لتصحيح الأفكار المغلوطة التي يتلقونها من جهات عديدة، الأمر الذي يجعل الحاجة إلى مجلة “نيو ساينتست” ماسة لكونها تتعامل مع التقارير العلمية بطريقة يفهمها القارئ غير المتخصص.
وهناك أيضا قصور يبعث على القلق بشأن فهم الجمهور للعلم، وفق ما أشارت إليه دراسة أجرتها مؤسسة “ويلكم تراست”.
ووجدت الدراسة أن 9 في المئة فقط من المشاركين في الدراسة كانوا يعرفون أن مصطلح “مقاومة المضادات الحيوية” يعني أن البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.
لكن أكثر من ثلاثة أضعاف هذه النسبة، وهم 31 في المئة، يعتقدون أن أجسامهم أصبحت مقاومة للمضادات الحيوية.
وسادت مستويات مماثلة من الجهل في ما يتعلق بحقيقة أن المضادات الحيوية تقتل البكتيريا فقط وليس الفايروسات، وبالتالي فهي غير مناسبة لعلاج الأنفلونزا أو نزلات البرد.
وتوصل العلماء منذ سنوات طويلة إلى عدم وجود صلة بين شرب الحليب وإنتاج المخاط والبلغم. ومع ذلك لا يزال الكثيرون يتوقفون عن شرب الحليب عندما يصابون بالبرد، غير مدركين للمعلومة الصحية.
ودار جدل حول من يتحمل مسؤولية مثل هذا الجهل، لكن معظم المراقبين قسموه إلى مقاييس متفاوتة بين العلماء وكتاب العلوم أو الصحافيين، والجمهور نفسه.
وتتحمل المؤسسات العلمية أيضًا بعض المسؤولية بسبب بذلها المزيد من الجهود لتعزيز سمعتها، بدلاً من توخي الدقة والشفافية في أبحاثها المنشورة.
وينبع رفض الجمهور للرسائل العلمية وعدم الثقة في معظمها من الإطلاق المستمر للادعاءات المبالغ فيها، وفقًا لما أكده تشارلز سيف، أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك.
وقال سيف “التاريخ مليء بتصريحات تخدم المصالح الذاتية، وغير صحيحة، بل وخطيرة يتم نشرها باسم العلم. كل من آمن من الجمهور بكل بيان رسمي يعلن اكتشافاً جديداً في مجال العلوم هو في الحقيقة من شريحة الأغبياء”
وأضاف “أي شخص يثق بشكل أعمى في العلم، معتقدًا أنه حتى أكثر الشركات البحثية تعمل بشفافية ولا تشوبها المصالح التجارية، فهو ساذج”.
وتعد فكرة “نشر الجهل بشكل متعمد” أمرا مهما هذه الأيام، كما كان في السابق عندما درس روبرت بروكتور، وهو مؤرخ علمي بجامعة ستانفورد، تزوير شركات صناعة التبغ للحقائق المتعلقة بالسرطان والتدخين، لإشاعة الحيرة والشك والخداع بين الناس بغية تحقيق مكاسب.
واستخدمت بعض شركات التبغ بعض الأبحاث العلمية لإظهار أن منتجاتها غير ضارة، كما تم توخي مثل هذا النهج من قبل من ينكرون وجود تغير مناخي للتشكيك في الأدلة العلمية على وجود هذا التغير.
وفي مثال آخر نأت مجلة “ذي لانسيت” الطبية العريقة بنفسها عن دراسة نشرتها عن الهيدروكسي كلوروكين ومرض كوفيد -19 وتعرضت لانتقادات كثيرة، موضحة في تقرير رسمي أن “أسئلة علمية كثيرة” تحيط بهذه الدراسة.
وحرصت “ذي لانسيت” على “تحذير القراء من أنه تم لفت انتباهها إلى تساؤلات علمية جدية” بشأن الدراسة.
وكان لهذه الدراسة صدى عالمي وعواقب وخيمة دفعت منظمة الصحة العالمية إلى تعليق التجارب السريرية على الهيدروكسي كلوروكين في مكافحة كوفيد – 19. كذلك قررت فرنسا حظر هذا العلاج.
وأكد الخبير الفرنسي البروفسور جيلبير دوراي في تغريدة له أن هذا الوضع “يثبت أن الزمن العلمي يجب أن كون منفصلا عن الزمن الإعلامي. فالطابع الملح للجائحة لا يبرر صدور دراسات سيئة”.
اختيار اللغة العلمية غير أن دان نويز، المدير السابق للمختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية، يرى أن التحدي الرئيسي يكمن في اختيار اللغة والتعبيرات العلمية المناسبة لمخاطبة العامة.
وقال نويز “الصعوبة تكمن في اختيار اللغة التي تكون قريبة جدًا من العلم لكنها قد تبدو في أحيان كثيرة صعبة جدًا على نسبة كبيرة من الجمهور، أو بعيدة جدًا عن العلم وتفتقر إلى المصداقية وتواجه خطر رفضها من قبل المجتمع العلمي. هناك حاجة إلى إيجاد طريقة لمد جسر بين هذين المستويين”.
وطالب نويز العلماء بأن يكونوا أكثر صدقًا بشأن طبيعة البحث والشكوك التي ينطوي عليها الأمر، حتى مع وجود خطر زرع هذا الشك.
وعلق بقوله “العلم صعب وبطيء. وهو مليء بالفشل والطرق المسدودة، لكنه أيضًا رائع”.
واستشهد بتجربة المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في الفترة التي سبقت بدء تشغيل المسارع النووي الكبير أو مصادم الهدرونات الكبير في سبتمبر 2008، قائلا “تسبب التشغيل الوشيك للآلة في شعور فئة قليلة من السكان بخوف شديد من احتمال أن يكون المصادم خطيرًا، ويتسبب في حدوث الثقب الأسود الذي قد ينهي الكون بطريقة ما”.
وأضاف “لقد كان رد المنظمة على ذلك رصينا، ولم تحاول أن تقول إن هذا لم يكن صحيحًا: لقد وجدت في ذلك فرصة لنقل المعلومات ومشاركة العلم، وذهبت أيضًا إلى حد القول إن تكوين الثقب الأسود، على الرغم من أنه غير محتمل، سيكون رائعًا بالإضافة إلى أنه آمن، لأنه قد يفتح الباب أمام نظرية تسمى التناظر الفائق”.
يبدو أن العقد الحالي سيكون موجها أكثر نحو تكريس مجتمع المعرفة بامتياز، والذي سيشكل النشر العلمي الشعبي أبهى صوره، ولذلك يعتبر خيارا إستراتيجيا لوسائل الإعلام كي تستعيد ثقة الناس في العلوم وأبحاث المؤسسات العلمية. وكما أكد المؤرخ باتريك إيفينو، رئيس المجلس الفرنسي لأخلاقيات الصحافة، تعد هذه اللحظة “لحظة مهمة لوسائل الإعلام لتثبت أنها في خدمة الجمهور أولاً وبمعلومات جديرة بالثقة عبر انتقائها”.