تحليل: ماذا بعد تسليم غريفيث ملف اليمن؟

محليات
قبل 3 سنوات I الأخبار I محليات

لم يكن تولي مارتن غريفيث مهامه كمبعوث أممي لليمن، في عام 2018، موضع تفاؤل كبير منذ البداية؛ إذ سبق الرجل مبعوثان أمميان أنهيا عملهما بالاستقالة بعد عددٍ من الإخفاقات؛ لذا كان من البديهي القول إن مهمة المبعوث الجديد، وأي مبعوث آخر إلى اليمن، تمثل تحدياً صعباً.

بدأ مارتن غريفيث مهامه في اليمن بنشاطٍ وجهد ملحوظَين. ولم يكن يمضي عام على مهمته، حتى تمكَّن من جمع الحوثيين والحكومة اليمنية الشرعية لاتفاق ستوكهولم بشأن محافظة الحديدة الاستراتيجية، والذي كان من بين أهم مضامينه وقف كامل لإطلاق النار في المحافظة. أثارت صورة تصافح ممثلي طرفَي الصراع ابتسامة تفاؤل خجولة بين اليمنيين والمهتمين بالشأن اليمني؛ لكن سرعان ما اختفت تلك الابتسامة منذ الأيام الأولى بعد الاتفاق، وبقي الاتفاق متعثراً إلى اليوم.

ما أن جاء منتصف عام 2019، أي بعد نحو عام وثلاثة أشهر من عمل جريفيث، حتى أصبح المبعوث الأممي غير مُرحب به، وبالتالي أصبحت مسألة استمراره لإحلال السلام والأمن موضع شكٍ كبير؛ حيث اعترض الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، على أداء غريفيث، في مايو 2019، وعبَّر بوضوح، في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، عن عدم القبول باستمرار غريفيث في مهامه.

توالت ردود الفعل المناهضة لعمل غريفيث منذ 2019؛ حتى تحدثت وسائل إعلام عن مناقشة غريفيث فكرة استقالته مع فريق عمله؛ لكنه على ما يبدو اختار التمهُّل حتى توصل، منذ بضعة أشهر من اليوم، إلى الاعتقاد بأن رحيله فعلاً بات أمراً وشيكاً بعد تزايد إحباطاته.

ومن المقرر تسليم مارتن غريفيث ملف اليمن إلى خليفته الجديد ما أن يتم العثور عليه، ويتسلم غريفيث بعدها مهامه الجديدة في الأمم المتحدة في المجال الإنساني، وينهي بذلك ثلاث سنوات من العمل المضني الذي رافقه الكثير من الإخفاق والاتهام بالانحياز للحوثيين، والذين رفضوا هم أنفسهم لقاءه مؤخراً في مسقط، كما رفض الرئيس اليمني ونائبه لقاءه أيضاً من قبل.  

يمكن اعتبار النتيجة المؤسفة التي وصل إليها مارتن غريفيث وسلفاه، امتداداً لإخفاق الأمم المتحدة في القيام بمهمتها الأساسية المتمثلة في حفظ الأمن والسلم الدوليين؛ حيث تمتلك الأمم المتحدة سجلاً سيئاً في هذا الشأن، إذا ما استثنينا بعض المساهمات المتواضعة للغاية.

ويعود تعذُّر مساهمة الأمم المتحدة في تحقيق السلم والأمن الدوليين، وحلّ النزاعات وإبرام صفقات وقف إطلاق نار فعالة، وحمايتها، إلى حقيقةٍ جوهرية بسيطة هي أن الأمم المتحدة ليست هيئة سيادية عالمية، ولن تكون كذلك عما قريب، وهي تقوم أساساً على مبدأ سيادة الدول، والتي قد تنظر أحياناً إلى تدخلات الأمم المتحدة على أنها تتعارض مع مصالحها الوطنية. يمكن ملاحظة مبدأ السيادة المهم هذا من خلال رسالة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في مايو 2019، والتي اتهم فيها غريفيث بـ”التجاوز الصارخ للسيادة اليمنية”، و”التعامل مع الانقلابيين كحكومة أمرٍ واقع”.

يرجع ضعف الأمم المتحدة في القدرة على حلِّ النزاعات إلى القيود التي تفرضها عليها الدول الأعضاء كنتيجةٍ لخلافات هذه الدول في ما بينها، وهذه الحقيقة تضيف سبباً آخر للاعتقاد بأن دور الأمم المتحدة في إنهاء الصراع في اليمن سيكون محدوداً للغاية، إن كان لها أي دور، وأن تعيين مبعوث أممي جديد خلفاً لغريفيث لن يؤدي -على الأغلب- دوراً محورياً في هذا الصدد.

تشمل الأسباب الجوهرية الأخرى لتعثُّر عملية السلام في اليمن، تعامل المجتمع الدولي ومبعوثي الأمم المتحدة المعيب، وغير الواقعي مع الأزمة؛ إذ إنه، وحتى بعد إحكام الحوثيين السيطرة على شمال اليمن، فلا تزال أغلب المطالبات والتسويات المقترحة تدور في فلك تخلي الحوثيين عن السلاح والانخراط في مفاوضات، لتشارك سُلطة اليمن الموحَّد؛ وهي مطالبات لا تأخذ في الاعتبار أن تطور الحرب وأساليبها لدى الحوثيين يُسهم بالفعل في تكوين دولة خاصة بهم، تعززها قدرتهم على الحصول على التمويل الخارجي والإيرادات المحلية، وتعبئة السكان الذين هم تحت سيطرتهم، واحتكارهم استخدام القوة في نطاقهم، والاستغلال الأيديولوجي والثوري لإضفاء الشرعية على أنفسهم.

كما لا تأخذ المحاولات المستمرة لإنهاء الصراع في اليمن الانقسامات الاجتماعية بين السكان، وأن الثورة التي انطلقت قبل عشر سنوات، هي في الأصل نتيجة لمحاولة تحديثٍ اجتماعي واقتصادي، وفي نفس الوقت تنافس قديم على السلطة، كما أن مطالبة الجنوبيين -على الجانب الآخر من الصراع- بالاستقلال بدولتهم في الجنوب جادة ومشروعة ومستمرة. وقد عزَّزت هشاشة الدولة اليمنية منذ ما قبل الصراع، وضعفها في إحكام السيطرة الفعالة على كل أراضيها، والمجموعات السكانية المختلفة، من تفاقم المطالبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وعلى الرغم من كل تلك الحقائق التي لا يمكن إنكارها؛ فإن صناع القرار والمجتمع الدولي يستمرون في المطالبة بحلول أقل واقعية لدواعٍ دبلوماسية وسياسية مفهومة؛ إذ من الصعب أن يجرؤ أحد على اقتراح تقسيم بلد ما لحل أزمة كحال اليمن، وتحميل كل دولة مسؤولية أفعالها، وكذا مسؤولية حماية نفسها، بدلاً من تحميل الجميع تبعات تصرفات غير مقبولة إقليمياً، ذلك أن من شأن اقتراح مماثل -إلى جانب اعتباراتٍ أخرى- أن يدفع المزيد من الدول الضعيفة إلى التفكك.

وبالنظر إلى هذه الحقيقة التي تُؤخذ بعين الاعتبار من قِبل الكثيرين، فإن مَن يمكنه فرض واقع جديد مختلف، بغض النظر عن اعتبارات المجتمع الخارجي، هو مَن يملك القوة ويُخضع الجمهور أويكسبه ببساطة، كما يمكن للشعب ذاته أن يفرض واقعه الذي يريد من خلاله الاستمرار في النضال؛ وهو ما يعني أن الصراع في اليمن ليس قريباً من النهاية بعد، ما لم يتم تغيير طريقة التعاطي معه.