عن الخوف والغضب... أو العواطف كأداة سياسيّة

محليات
قبل ساعتين I الأخبار I محليات

يقول الفيلسوف العالمي (الأميركي من أصل هندي) نعوم تشومسكي: "إذا أردت غزو شعب اصنع لهم عدواً وأوهمهم أنه أكثر خطراً منك، ثم كن المنقذ لهم"، ويقول غوستاف لوبون "إن معرفة فنِّ التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فنِّ حُكمها".

 

إذن لتحكم الجماهير لن تكفيك العقلانية وحدها بأي حال من الأحوال، فحشد الناس وبناء رأيهم العام المشترك وتوجيه سلوكهم ودفعهم إلى اتخاذ قرار أو القيام بفعل، يتطلب ما هو أبعد من المنطق والحجج والأدلة والموضوعية، يتطلب استثارة خيال الناس ومشاعرهم قبل محاججتهم ومخاطبة عقولهم، فالعواطف والانفعالات هي الدوافع الأقوى والأكثر تأثيراً، وكم من مرة انصاع العقل لرغبات القلب في مواقف بالغة الحساسية وعند أشخاص معروفين بعقلانيتهم وموضوعيتهم!

 

وإذا كانت كل المشاعر تؤثر بشكل أو بآخر على السلوك، ويمكن للسياسة وللسياسيين توظيفها ليحكموا الناس، إلا أن أغلب هذه المشاعر تعود إلى انفعالين اثنين، أو سمِّهما عاطفتين إن شئت، وخاصة عندما يسيطران على الوجدان، الفردي والجمعي، ويوجهان مواقفه وأفكاره وقراراته، وهذان الانفعالان هما: "الخوف والغضب".

 

من أشهر تعريفات السياسة كأداة أنها "فنَّ حُكم الجماهير"، ورغم فجاجة هذا التعريف من المنظور الأخلاقي إلا أنه واقع لا يتناقض مع حسن النوايا، أو سوئها، على حد سواء. وهذا يقتضي أن البراعة في السياسة تعني البراعة في إدارة أحد هذين الانفعالين –الخوف والغضب – أو كليهما في حالات كثيرة، بغية بلوغ ما يصبو إليه السياسي من أهداف. ولا فرق هنا أن تكون هذه الأهداف نبيلة أو دنيئة، بل تصبح جميعها "مبررة" (بالمعنى الميكافيللي) في سياق تحقيق الغايات البعيدة التي ينشدها السياسي.

 

ومن الخطأ الاعتقاد أن أسلوب إثارة غضب الناس أو خوفهم يُستخدم في زمن معين أو مع جمهور أو شعب بعينه دون الآخرين، بل هو قائم بقيام السياسة ذاتها، وموجود حيث وُجدت، وصالح في كل زمان ومكان ولدى جميع الشعوب بغض النظر عن مستوى وعيها وثقافتها، ذلك لأن الغضب أو الخوف غريزتان أساسيتان وبدائيتان، تعملان عملهما بتأثر اللاوعي الجمعي الذي يكاد يكون واحداً بين جميع الشعوب، قديمها وحديثها، المتحضر منها والمتخلف.

 

 

ورغم أنه من الممكن التحكم بالخوف أو الغضب على المستوى الفردي وضبطهما بشكل عقلاني يجعلهما مقبولين ومفيدين، إلا أنهما غالباً ما يتنافيان مع العقلانية على المستوى الجمعي، فيتمكنان من التأثير في التفكير وتعطيله، ومن ثم ينجحان في دفع الإنسان نحو سلوكيات قد لا تعبِّر بالضرورة عن حاجته أو رغبته بقدر ما هي انعكاس لسلوك المجموعة. ويتعلم السياسيون الناجحون تقنياً، ومنذ حداثة عهدهم، قواعد ومهارات علم النفس الجمعي، ولذلك يحرص السياسي على أن يكون الشعور بالخوف أو الغضب جماعياً لتكون استثارته سهلة وانتشاره سريعاً، فيضمن تحقيق النتائج المرغوبة وصناعة التأثير المطلوب.

 

 من جهة ثانية، يعي السياسيون أن الجمهور يميل بطبيعته إلى البحث عن الحلول البسيطة، ولديه الاستعداد لأن يتوهم أنها الحل الوحيد لمشاكله، لذلك يحرص السياسي على استخدام لغة حادة ومباشرة وبسيطة في نفس الوقت، تصل إلى نفوس أكبر عدد ممكن من الناس، فيتم تخويفهم من مستقبل مظلم إذا لم يدعموا سياسات معينة أو يقبلوا بها، هكذا تُقيّد الحريات باسم الأمن والاستقرار، أو يستفحل العداء بين شعبين بإيهام أحدهما أن الآخر يتربص به ويريد الانقضاض عليه، هكذا أيضاً قد تزيد الضرائب بحجة دعم التسليح والاستعداد لمواجهة العدو، أو تنخفض جودة الخدمات التي تقدمها الدولة لشعبها بحجة تحويل الأولويات نحو حفظ أمنه وسلامته.

 

أما الغضب فنراه حاضراً في التحريض على الثورات كانفعال ينبغي التركيز على استثارته وتعميمه باعتباره شرطاً لازماً لقيامها، ولقد رأينا ذلك بأوضح صوره خلال موجة الثورات العربية الأخيرة حيث جرى، عبر الإعلام الموجه وشهادات الزور واختلاق الأحداث، "شيطنة" حكومات الدول التي اندلعت فيها تلك الثورات. يحضر الغضب أيضاً بمستويات أكثر ضبطاً وأقل عنفاً في الحملات الانتخابية التي يخوضها الطامحون للسلطة، إذ تستند الاستراتيجية التي تهيمن على هذه الحملات، وحتى في أعرق الديموقراطيات، على أن يقوم المرشح بتشويه سمعة خصومه وإثارة غضب الناخبين تجاههم، فيضمن بذلك أصوات الناخبين ويقلب النتائج لصالحه.

 

لا يصح في السياسة دائماً أن تُسلَّم الشعوب لعاطفة الخوف، أو الغضب، فقط، بل لا بد من الموازنة بينهما ليستكمل تأثير أحدهما ما يمكن أن يؤثر به الآخر. وقد أظهرت نتائج دراسات كثيرة في علم النفس السياسي أن الخوف يعمل كمحفز مثالي للغضب، ويصنع خلفية يصبح الغضب في مقابلها ردَّ فعلٍ طبيعياً ومبَرَّراً تجاه "الجناة المفترضين". في الحروب الدينية مثلاً، نجد تلازماً واضحاً بين مسار الخوف من الآخر، والنابع أساساً من التهديد الهوياتي للجماعة، وبين الغضب الناجم عن ذلك الخوف، والذي يتمظهر في أسوأ ممارسات العنف والاضطهاد تجاه هذا الآخر المختلف

 

وفي أماكن مختلفة من العالم، لاتزال بعض الحركات القومية المتطرفة تستخدم خطاباً عماده الأساس هو الخوف من الآخر (المهاجرون، الأقليات..) بهدف تحصيل مكاسب سياسية بالدرجة الأولى، إذ يدرك هؤلاء أن شحنَ أيِّ حدث بجملة من العواطف كفيلٌ بنقله إلى مستوى آخر من التفعيل. يدلُّ على ذلك أيضاً ما فعلته الحركات القومية في منطقتنا العربية التي قامت أيديولوجيتها على صنع "عدو" وإثارة الرعب منه ثم الغضب عليه، وما نتج عن ذلك من تبني سياسات لا تخدم الشعوب ولا مستقبلها بل على العكس، عمّقت الانقسامات ونشرت الخوف وكانت مسؤولة إلى درجة بعيدة عن الواقع الذي تعانيه البلدان التي سادت فيها تلك الحركات حتى اليوم.

 

بالعموم تقوم سياسة استغلال العواطف أو إثارتها على بناء ثنائية: "نحن مقابل هم"، بالصورة التي تشعر الفرد بأنه ينتمي بقوة إلى مجموعة لديها هويتها الخاصة المُهدَّدة بطريقة ما من قبل مجموعة ثانية. وترتكز تلك السياسة على الانتشار عبر شبكة متسعة من وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، والتي تتطور في كل ثانية من عصرنا الحالي ساحبة معها غرائز البشر وانفعالاتهم نحو اتجاهات قليلة معلومة، وأخرى غير معلومة لكنها أكثر بكثير، إذ يبقى اللجوء إلى أدوات كالخوف والغضب أمراً غير مضمون النتائج في معظم الأحيان، وقد يصل مستواهما إلى درجة يتعذر فيها إمكان ضبطهما، وقد يؤديان مفعولاً عكسياً في النهاية بالنسبة لمثيري تلك الانفعالات أنفسهم.

 

شئنا أم أبينا ستبقى العواطف الإنسانية حاضرة التأثير في سلوكنا ما دمنا موجودين على هذه الأرض، وستبقى محرّكاً مهماً في سياق التاريخ، لكنّ الحضارة والبناء لا يتحققان حين تهيمن العواطف على العقل وتعطله، بل حين تخضع هي له وترفده بما يحتاجه من معطيات وحقائق، فالخوف يحمي الإنسان من الوقوع في مهالك كثيرة، والغضب قد يمنع السياسة من السوء والشطط، وهذا مُناط بوعينا الفردي أولاً والجمعي ثانياً، ونشر مثل هذا الوعي ليس سهلاً بطبيعة الحال لكنه ليس مستحيلاً، يحتاج إلى إرادة وجهود وتعليم حقيقي، لتظلّ العقول حاضرة في اللحظات المصيرية وتبقى هي من يحدد مستقبلنا