كتبت مرارًا عن أنه لا وحدة أو تجزئة بالقوة ، وأكدت - أيضًا - أنَّ الوحدة بشكلها الجهوي القبلي الإستئثاري أنتهت بكفاح وحراك وثورة شعبية وحرب ، كما والتجزئة وفق مضامين الطرف المنهزم في حرب ١٩٩٤م أنتهت .
قلت هذا الكلام بينما كان فيه هدير الجماهير الغاضبة يشق عنان السماء ،وأصوات الميكروفونات تصم الأذنين ، وأصابع الصغار والشيوخ ملوحة وبحماسة بالسبابة والوسطى ، في إشارة إلى أثنين لا ثالث لهما ، إمَّا حياة بعزِّة ، وإمَّا موت بشرف .
اليمنيون خاضوا حروبًا وصراعات عنيفة ، في سبيل القضاء على الآخر المختلف سياسيًا وفكريًا ومذهبيًا وسلوكيًا ، ووصل بهم الأمر إلى تصفية الخصوم وبدوافع أنانية شخصية لا صلة لها البتة بسياسة أو اقتصاد أو دولة أو نظام .
سأذكر هنا أن سلطة قبائل الشمال شنَّت حربًا غادرة عام ١٩٧٢م ، وكان مبررها استعادة الجنوب الجامح ناحية المعسكر الشرقي الشيوعي الكافر إلى حضيرة الشمال المستحكم به أشياخ إقطاع وقبيلة وطائفة أعلنت نفيرها للذود عن حياض الإسلام والمسلمين . وعندما تقوَّت شوكة سلطة النظام في دولة الجنوب أراد تحرير الشمال من قبضة المشائخ والقادة العسكريين الرجعيين ، فكانت حرب العام ١٩٧٩م فرصة تاريخية مكَّنته من إسقاط مناطق عدة عسكريًا وتسليمها للقوى السياسية التقدمية الموازية له في رؤيتها السياسية والإيديولوجية .
وفي المحصلة كلاهما أخفق في فرض هيمنته أو إحلال أفكاره بالقوة العسكرية ، فكان الحل الممكن هو الخيار الدبلوماسي السياسي السلمي . جلسا الرئيسان سالمين والقاضي الإرياني فكان بيان طرابلس فاتحة لمسار وحدوي سلمي ، حوار أفضى إلى إتفاق سياسي أعاد القوة إلى ثكناتها ومكَّن الساسة من المباهاة به بإعتباره إنجازا تاريخيًا . وبالنظر إلى تلك الحقبة السبعينية المشتعلة بالشعارات والصراعات العنيفة ، أعد مضامين البيان إنجازًا وحدويًا ، فمسمَّى" الجمهورية اليمنية " مخاض تخلَّق من هذا الإتفاق ، وتم التوافق عليه بمقترح ثالث قدمه العقيد معمر القذافي .
وبعد توقف حرب ١٩٧٩م جلسا الرئيسان علي عبدالله صالح وعبد الفتاح إسماعيل على طاولة مفاوضات رعتها دولة الكويت الشقيقة في عهد الشيخ جابر الاحمد الصباح رحمه الله ، وتمخضت عن إتفاق سياسي يؤسس لحقبة سلام وتعاون بين الدولتين في الشطرين ، ومن أهم مضامين الكويت لجنة دستورية واحدة لإعداد دستور الدولة اليمنية الموحدة .
المؤسف وبرغم كل ما حدث من صراعات وحروب ، ظلَّت السطوة العسكرية والأمنية مهيمنة على ما سواها من أفكار التنمية والاستقرار والسلام .
تجلَّت هذه الأفكار بارزة مع إعلان الدولة اليمنية الموحدة سلميًا ، فمع أنها أول فكرة سياسية تتحقق سلمًا ودون حرب ، إلَّا أن الفرحة بالعرس الكبير لم يمض عليها أشهر العسل ، إلَّا وبرزت لغة القوة والاستئثار ، فكانت الأزمة السياسية قد أفضت الى حرب ١٩٩٤م .
النظام القبلي العسكري قدر له حسم الحرب واستعادة الجنوب إلى حضيرة الشمال ، فماذا كانت النتيجة ؟ تعرض التوحد لافظع عملية تشويه ، إقصاء وتهميش واستحواذ طال كل شيء الوظيفة والأرض والثروة والقرار ، ما يعني كان الثمن القضاء على أهم منجز سياسي سلمي تحقق لليمنيين .
وتكررت المأساة في حرب ٢٠١٥م عندما كرر الحوثيون وشريكهم الرئيس الأسبق حربهم على الجنوب والشمال معًا ، فكان من نتائج هذه الحرب أن الجنوب ومناطق عدة في الشمال قاومت واستبسلت عسكريًا . فلم ترضخ محافظات الجنوب ، وإلى جانبها محافظات تعز ومأرب والبيضاء ؛ لفكرة استعادة السيطرة وبذات المنطق العسكري الإستئثاري الإخضاعي الذي عانت منه البلاد والعباد زمنًا طويلا . ارادوا التوحيد بذات الأساليب والأدوات العسكرية القديمة دونما يفلحوا ، أو يتّعضوا ممَّا حدث في صيف ١٩٩٤م .
ومنذ تحررت عدن وجوارها والجنوبيين محلك سر ، فلأنهم استعادوا الجنوب أو ابقوا عليه ضمن مسار اليمن ، أرادوا فرض واقع سياسي بمنطق القوي المسيطر .
كما وينطبق الأمر على العاصمة صنعاء ومحافظات الشمال ، فلا الجماعة الحوثية المسيطرة عسكريًا وأمنيًا يمكنها حكم الشمال بمنطق الغلبة والقوة إلى ما لا نهاية .
بعض الساسة أو المختصين بالحالة اليمنية ، تجدهم يؤكدون أن بلاد اليمن ليست سويسرا أو دولة اسكندنافية ، بحيث يمكن احتواء الأزمات السياسية بادوات سياسية ديمقراطية . ومنطق مثل هذا واقعي ، فلابد للحق من قوة تسنده في ظروف كهذه ، لذلك توارى السياسي صاحب الرؤية وبرز للوجود متمنطق السلاح .
وأيا يكن الأمر ، فلقد خبرنا أن منطق القوة ربما فرض أجندته السياسية أو الفكرية أو العقدية ، لكنه لم ولن يكن حلًا ناجعًا وعادلًا بحيث يمكنه الاستدامة ، فعلى العكس من ذلك سيكون باعثًا لنوازع وتطلعات كامنة في نفوس وأذهان اليمنيين ، ما يعني عاجلًا أو آجلًا سيؤدي بنا جميعًا إلى دورات عنيفة جديدة .
ومما سبق ذكره ، ينبغي أن نعلم أن هذه الجماعات القبلية أو المذهبية أو السلالية أو الجهوية باعتبارها أقل وأدنى من أن يناط بها إدارة الدولة .
فهذه الكيانات المجتمعية العصبوية أعجز من أن تمثل الدولة الجمعية بمفهومها وقيمها الوطنية الحداثية ، ومحاولتها تكريس منطق سلطة القوة لن يجدي نفعًا مهما تراءى للبعض نجاعته ، فقد سبق اختباره في دورات عنف وحروب عدة .
ومنطق السلطة المسيطرة بالقوة لا بالكفاءة والرضاء الشعبي ، جميعها قوضت الدولة ، وبددت مواردها ، واستنزفت قدراتها ، في معارك سلطوية ثانوية لا ترتقي لمصاف معركة واحدة تخوضها الدولة المجسدة لتطلعات شعبها .
فماذا كانت النتيجة ؟ لا دولة قوية كائنة أو أن هناك سلطة حاكمة ومسيطرة على مجمل الجغرافية والبشر ، فما من هيمنة واستئثار إلَّا يقابلهما غبن وضيم ، والمحصلة فقدان الإستقرار السياسي الذي هو أهم منجز يحفظ الدولة ، ويقوي مؤسساتها ، ويحصِّنها من اي اختراقات محلية أو خارجية . الحل من وجهة نظري في أن يتخلَّى كل طرف عن فرض أجندته السياسية على الأطراف الأخرى ، ينبغي أن تكون القوة العسكرية ضمانة لتحقيق أجندة وطنية تتماهى مع تطلعات ورغبات اليمنيين جميعًا .
فالمهم أن لا تتكرر أخطاء الماضي البعيد أو القريب ، وأن نتعلم من هذه الاخطاء ، فلا وحدة أو تجزأة يمكن فرضها بقوة السلاح ، فمثل هذه الأفعال سبق تجريبها وكانت نتائجها كوارث ومآسي مازالت ماثلة .
وعلى كل ذي عقل وبصيرة الإستفادة من أحداث تاريخنا الموغل في استخدام القوة بغرض الإكراه وإجبار الآخر للتسليم بمنطقه على ما فيه من إذلال وظلم وبواعث تثوير ومقاومة مجددًا ، فمنطق الغلبة القهرية لا يبني دولة عادلة مستقرة ، وإنما يخلق أزمات وصراعات بلا منتهى .
محمد علي محسن