كتب/ معتز الخطيب
انشغل الرأي العام، الأيام الماضية، بأحداث المقاومة الفلسطينية للعدوان الإسرائيلي على المسجد الأقصى وبعض أحياء القدس التي حاول الإسرائيليون تهجير أهلها قسرًا. وقد أثارت هذه التطورات العديد من الأسئلة من قبيل: ما جدوى تدخل المقاومة الفلسطينية المسلحة على خط الصراع الحالي الذي بدأ سلميًّا في القدس؟ وهو سؤال لا يفتأ يتكرر مع كل مواجهة بين إسرائيل وحركات المقاومة.
ثم إنه في ظل صمت محور سياسي بعينه ومن يدورون في فلكه من نخب متنوعة سياسية ودينية وفنية وغيرها، هل يُقبل هذا الصمت؟ وهل يُنسب لساكتٍ قول؟ وفي حين صمتت رموز دينية معروفة، عبرت شخصيات فنية عن مناصرتها للقضية الفلسطينية، فكيف نقوّم -أخلاقيًّا- المفارقة التي انطوت عليها ثنائية الصمت والإعلان هنا؟
يمكن التمييز بين توجهين داخل المعترضين على تدخل المقاومة المسلحة في المعركة الدائرة في القدس: أولهما يحصر المقاومة المشروعة في المقاومة السلمية فقط، وأنها الفعل الوحيد المشروع أخلاقيًّا وسياسيًّا. في حين يرى ثانيهما أن المقاومة مشروعة بكل وسائلها؛ بشرط تحقق الملاءمة في الوسيلة المستخدمة في الزمان والمكان
وإذا كان السؤال الأول يتعلق بنوع الفعل الواجب على أهل الداخل الفلسطيني الذين هم ألصق الناس بالحدث، وأول المخاطبين بالواجب الأخلاقي في هذه الحالة، فإن السؤال الثاني يتعلق بمواقف من هم خارج فلسطين وخاصة في الدول العربية المحيطة بهم، والذين يقع عليهم واجب المعونة والنصرة بكل وسيلة ممكنة، وهو واجب تفرضه الأخلاق (فكرة نصرة الحق والانتصار للمبدأ) ويفرضه الدين كذلك (فكرة الجهاد الواجب بحسب الحاجة وبقدر الطاقة).
سأكتفي في هذا المقال بمعالجة السؤال الأول، ولعلي أعود لاحقًا إلى معالجة الثاني. فقد ظهرت اليومين الماضيين أصوات عدة تدين تدخل حركات المقاومة في الصراع الدائر في القدس، وتقوم حجج المعترضين على حجتين مركزيتين:
الأولى: أن السلمية أجدى لحشد التأييد العالمي، ولتسليط الضوء على المعتدي وإرباكه، وأن صواريخ غزة هي ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والآلة العسكرية الإسرائيلية.
الثانية: عبثية المقاومة المسلحة؛ لاعتبارات تتصل بمحدودية مردودها وثمرتها من جهة، وبأن الميدان العسكري هو الميدان الذي ترغب بل وتتفوق فيه إسرائيل من جهة أخرى، ما يجعل من نتيجة إطلاق صواريخ المقاومة من غزة على الداخل الإسرائيلي مغامرة معروفة نتائجها سلفًا.
ومن جهتي، لا أرى بأسًا في مشروعية هذا النقاش والاختلاف فيه؛ بشرط أن يبقى في إطار وجهات النظر من دون أستذة أو وصاية أو تبخيس لفعل المقاومة أو وصفها بالعبث، ومن دون تخوين الطرف المقابل الذي قد يختلف في تقديره للموقف السياسي أيضًا؛ أي إن النقاش هنا يبقى في إطار التحليل السياسي وتقدير الموقف السياسي، ويعكس كلا الموقفين منظورًا مختلفًا للسياسة ولفعل المقاومة، فكلٌّ منهما يقوم على حسابات معينة وفق مرجعيته ورؤيته والمعلومات التي لديه، وهو الأمر الذي يبرز من خلال المفاهيم والمصطلحات التي يُعبر بها كل فريق عن المشهد. ففريق يستعمل مصطلحات مثل التمييز العنصري (Apartheid) والنضال أو الاحتجاج السلمي، وفريق يلح على مفاهيم المقاومة والدفاع عن المقدسات وعن النفس، وفي حين يتحرك الأول في إطار وطني يتحرك الثاني في إطار وطني إسلامي معًا.
ومع ذلك يمكن التمييز بين توجهين داخل المعترضين على تدخل المقاومة المسلحة في المعركة الدائرة في القدس: أولهما يحصر المقاومة المشروعة في المقاومة السلمية فقط، وأنها الفعل الوحيد المشروع أخلاقيًّا وسياسيًّا. في حين يرى ثانيهما أن المقاومة مشروعة بكل وسائلها؛ بشرط تحقق الملاءمة في الوسيلة المستخدمة في الزمان والمكان، وهذه الملاءمة تتعين بحسب الظروف والمعطيات؛ فهي رهن بأمرين: الأول: المقاومة بحيث توجع العدو بأكثر مما توجع الشعب الفلسطيني، والثاني: المقاومة بحيث يمكن استثمارها سياسيًّا فيما بعد والبناء عليها.
وفي الواقع، ينطوي التوجه الأول على موقف أيديولوجي؛ إذ يقف موقفًا جذريًّا من المقاومة المسلحة؛ خصوصًا أنها إسلامية في الحالة الفلسطينية، ويطمح إلى مقاومة سلمية محضة ودولة علمانية مأمولة كما عبر أحد المعترضين بوضوح، بينما التوجه الثاني يقف على أرضية التحليل السياسي الذي يمكن الاختلاف معه في تقدير "الملاءمة" المشروطة في وسائل المقاومة، بناء على المعلومات والمعطيات المتوفرة. بل ربما وقع الافتراض مسبقًا بأن تحرك المقاومة العسكرية اعتباطي ومبني على مجرد انفعال؛ لمجرد أننا لا نعرف شيئًا عن إستراتيجيات هذه الحركات وعُدتها وعتادها وخططها، في حين أن هذا أمر طبيعي جدًّا؛ لأنه جزء من المعركة نفسها.
ومع كلا التوجهين نحن أمام مقاربة تفكر وفق الإطار النظري الحاكم للنظام الدولي نفسه، وتخضع لمنطق الدولة وقانونها الذي هو نفسه جزء من المشكلة؛ لأنه يحتكر الشرعية والمشروعية، ولا يعترف إلا بقانون القوة، وينحاز ضد الإسلاميين عامة رغم أنه يصمت عن يهودية الدولة الإسرائيلية وعن يمينها المتطرف الذي هو جزء من اللعبة السياسية فيها. لنتذكر أن شرعية إسرائيل تتأتى من كونها دولة وفق النموذج الغربي، في حين أن الفلسطينيين يعيشون في أراضٍ دون الدولة. ومن ثم فإن هذا الإطار الدولي النظري هو الذي يحدد ما هو مشروع وما هو غير مشروع، ليس سياسيًّا فحسب بل وأخلاقيًّا أيضًا، ومن هنا يلجأ فريقٌ من معارضي المقاومة إلى إدانة أي خروج عما هو مسموح به في العرف الدوليّ الذي له -وحده- الحاكمية.
ويمكن مناقشة حجج المعارضين من خلال 3 نقاط رئيسة:
النقطة الأولى: بطلان الرهان على المجتمع الدولي ومؤسساته في أي فعل مقاوم، فهناك افتراض بأن ثمة دورًا فاعلاً للمجتمع الدولي في نصرة قضايانا، وهذا الدور المفترض هو شرطٌ لمشروعية أي عمل مقاوِم، وإلا فسيكون مصير أفعالنا الإدانة والعزلة؛ إذا خسرنا تأييد وتعاطف المجتمع الدولي. ولكن هذه الحجة مشكلة لعدة اعتبارات:
1. أن الحديث هنا عن دولة احتلال تشكل آخر شكل من صنوف الاستعمار المباشر في العالم، ومع ذلك تم الاعتراف بها ومساندتها دوليًّا، بل تحظى بأهمية استثنائية أحيانًا؛ بالرغم من عنصريتها تجاه العرب عمومًا ومن سموا بعرب إسرائيل خصوصًا، ومع ذلك لم يؤثر ذلك في الموقف من إسرائيل دوليًّا.
2. أن المجتمع الدولي لا دور فعليًّا له في السياسات الدولية؛ والتأثير إنما هو للدول الكبرى التي لا تحتكم خارجيًّا إلى رأي عام، بل إلى مصالح القوة وقوة المصالح، ولهذا نجد أن دور المؤسسات الدولية المعوّل عليها لا يخرج عن حدود الشجب والإدانة والقلق!
3. أن المجتمع الدولي نفسه لم يقدم شيئًا لحل القضية الفلسطينية خلال العقود السبعة الماضية، كما لم يقدم شيئًا للسوريين خلال العقد الماضي رغم أن مأساتهم مصورة وموثقة وغير مسبوقة في التاريخ الحديث، بل كان يتفرج على المجازر المتوالية التي ارتكبها النظام السوري بحقهم وصمت على قتل مئات الآلاف منهم رجالاً ونساءً وأطفالاً، كما تفرج على تهجير نحو 10 ملايين سوري من بيوتهم وبلدهم!
فالخضوع للعرف الدولي هنا سيؤول -نهاية المطاف- إلى إدانة حركات المقاومة نفسها؛ لأنها خارجة عليه بما هي دون الدولة في حين أن العبرة بالدولة، ولأن مشروعية عمل هذه الحركات لا تُكتَسب، وفق هذا المنظور، إلا من خلال اعتراف الآخر بها، وهذا الاعتراف غير ممكن؛ فكيف تتحصل على ذلك وهي محل إدانة منه بالتطرف والإرهاب؟ هكذا يصبح شرط المقاومة المشروعة، في نظر بعضنا، سحب الشرعية عن حركات المقاومة نفسها؛ لأنها من خارج النظام الدولي (السيستم) ولا تتوافق مع المعايير المعترَف بها.
في حين أن فعل المقاومة حق ومشروع قانونيًّا وأخلاقيًا ودينيًّا، بل هو فعل إنساني طبيعي لمن يشعر بوجوده وكرامته ولا يرضى بالضيم أو لا يرضى بأن يُعتدى عليه أو أن تُنتهك حقوقه أو أن تهان مقدساته، فما بالك بمن يريد أن يجعل من العدوان على كل ذلك بلا كلفة على المعتدين الغاصبين مما يُجرئهم على التمادي في الباطل؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد …". وهذا لا يتضمن إضفاء المشروعية على فعل المقاومة فقط، بل يتضمن أيضًا تحريضًا على الدفاع عن النفس والعرض والحقوق، ليكون الاعتداء عليها مُكلفًا، وإن أدى ذلك إلى إزهاق نفس صاحب الحق كان شهيدًا.
النقطة الثانية: أن اشتراط تحقق التوازن لإضفاء مشروعية على القيام بأي مقاومة مسلحة، أمر غير واقعي؛ لأن التوازن ليس شرطًا في حركات المقاومة والحروب. وإذا كانت الغزوات النبوية جميعها لم تحقق شرط التكافؤ أو التوازن بين المسلمين وبين عدوهم في المعارك التقليدية، فإن حركات التحرر الوطني في العصر الحديث تؤكد المعنى نفسه، بل إن الحروب عامة تقوم على حسابات أكثر تعقيدًا من مجرد التكافؤ في ميزان القوى، كما أن ميزان الخسائر يختلف بحسب أحوال القوى نفسها، فنحن نتحدث عن حركات مقاومة من داخل الدولة نفسها، لا عن علاقة بين دولتين، وليس لدى غزة اليوم ما تخسره أكثر مما خسرته على مدار عقد ونصف العقد من الحصار والقصف والعدوان الإسرائيلي الذي لم يتوقف. ثم إن العدوان الإسرائيلي كثيرًا ما كان استباقيًّا، والذين اتخذوا قرار المقاومة هم أنفسهم من دفع تكاليفها سابقًا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ومع ذلك يستمرون في فعل المقاومة غير عابئين بالتكلفة، ولولا أن حساباتهم مختلفة لما كرروا التجربة.
فالمقاومة (مثل الدفاع عن النفس) تختلف عن المعارك العسكرية التي تقوم بين الدول؛ لأنها تتأسس على إرادة القتال والعزيمة والصبر ومقتضيات الواجب الديني والأخلاقي، أي أن ثمة مساحة مهمة للمسائل المعنوية والغيبية، وهو ما تحدث عنه القرآن في أكثر من موضع حين أعطى للتكافؤ العددي وزنًا نسبيًّا بحسب إرادة القتال وقوة الإيمان والعزيمة.
النقطة الثالثة: تتعلق بمردود المقاومة المسلحة، فالبعض استخف بتأثيرها وهو أمر معتاد من قبل خصوم المقاومة، ولكن حركات المقاومة تدخلت في التوقيت المناسب؛ لأن برنامجها يقوم -في الأصل- على الحرب مع العدو ضمن معركة تحرير مستمرة، وقد كان نتنياهو يظن أن معركة حي الشيخ جراح والاعتداء على الأقصى مغامرة مأمونة العواقب وليس لها تكاليف؛ خصوصًا بعد أن تحصن باتفاقيات تطبيع عدة مع بعض دول المنطقة، ولكن المقاومة حوّلت هذه المعركة إلى مكاسب عدة، فالإعلام الإسرائيلي تحدث عن أن "الدولة تحترق، أكبر هجوم صاروخي على إسرائيل في تاريخها" كما أن موقعًا استخباريًّا صهيونيًّا مثل (Intelli Times) تحدث عن أن صواريخ حماس التي أطلقتها على تل أبيب الأيام الماضية أكبر من هجمات حزب الله على إسرائيل عام 2006. فهذا يصور حجم الرعب والإرباك الذي أصيبت به إسرائيل لدرجة أنها أوقفت حركة الملاحة الجوية، وأجبرت نحو 4 ملايين إسرائيلي على النزول إلى الملاجئ اليوم الأول، وشلت الحياة فيها، وإن هذا في ميزان الردع لشيءٌ عظيم!
ومن المهم التأكيد على المكاسب الآتية:
1. استعادة وحدة الداخل الفلسطيني وأن فلسطين كلها ساحة واحدة، بعد حرص الاحتلال الإسرائيلي العقود الماضية على تجزئة الشعب الفلسطيني وتقسيمه إلى فلسطينيي 48، وفلسطينيي 67، وفلسطينيي الضفة، وفلسطينيي غزة، وفلسطينيي الشتات، وبعد أن حرص لعقود على رفض فكرة الدولة الفلسطينية ليبقى فلسطينيو الداخل حبيسي ما يسمى "الأراضي الفلسطينية". ومن اللافت أن المعارك السابقة كانت تجري بين غزة وإسرائيل، ولكننا اليوم أمام توحد شعبي فلسطيني وطني شامل، وفي القلب منه من كانوا يسمون عرب إسرائيل، ليتضح أنهم اليوم يقيمون في بعض دول المنطقة وخاصة السعودية والإمارات ممن يقودون قطار التطبيع على حساب القضية الفلسطينية ويناصبون حركات المقاومة الفلسطينية العداء.
2. إحياء فكرة أن المقاومة هي الحل الوحيد القادر على تكبيد الاحتلال الإسرائيلي تكاليف عدوانه، ورد بعض الاعتبار لكرامة الأمة وليس الفلسطينيين فقط، ولبيان عبثية كل محاولات وأد المقاومة التي جرت على قدم وساق خلال فترة ولاية (الرئيس الأميركي) دونالد ترامب وما سمي صفقة القرن واتفاقيات التطبيع التي تمالأت عليها بعض دول الخليج.
3. إعادة القضية الفلسطينية إلى المركز لدى الشعوب العربية والإسلامية، بعد أن تراجعت في حقبة ما بعد الثورات العربية، في ظل الاحتراب الداخلي نتيجة الصراع بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، فاليوم قطاع كبير من الأمة متضامن مع المقاومة، والقضية الفلسطينية عادت قضيةً موحِّدَة، الأمر الذي أحرج محور الثورة المضادة وأذرعها، وخاصة الأذرع الدينية ممثلة بدعاة الإبراهيمية ومنتدى تعزيز السلم ومجلس حكماء المسلمين.
هكذا يتضح أن جوهر الإشكال في تقويم مردود المقاومة وجدواها يرجع إلى الخلاف حول معايير التقويم وكيفية قراءة المشهد، فالمقاومة ليست تجارة تقاس بمعايير الكسب والخسارة المادية فقط؛ إذ إننا نتحدث عن قضية مركزية تعبر بحق عن قهر عالمي يتمثل في آخر نماذج الاحتلال في العالم، والقدس عنوان هذا الصراع ولبه. وهي تجمع بين الفكري والعسكري، والمعنوي والمادي، والديني والأخلاقي والسياسي.
فالبعد الديني ينطوي على معتقدات تخص القدس والأقصى خاصة، والأخلاقي ينطوي على تحديد الواجب الأخلاقي وعوامل تقدير الواجب في الواقع (بقدر المستطاع) والسياسي ينطوي على عوامل التدبير والتنظيم والاستثمار لتحقيق مكاسب من المقاومة، وعلى تقدير الموقف وفق المعطيات الواقعة والمتوقعة.
ولا بد من توضيح أن الأولوية في تقدير كل ذلك للأطراف ذات الصلة المباشرة بالقضية والمنغمسة فيها والمحيطة بتفاصيل المشهد الداخلي والمطلعة على المعلومات اللازمة، ومن ثم فليس تحليل من هم خارج بأولى من تحليل من هم داخل؛ للاعتبارات السابقة، ولاعتبارات أخرى تتصل أيضًا بمن سيتحمل الكلفة المادية والبشرية لأي خيار يتم اتخاذه، أي المسؤولية الأخلاقية والدينية قبل المسؤولية السياسية وبعدها.