ما أجمل وسطية الإسلام حين علمنا أن لا نغلو في الدين، وأن لا نتطرف في الأفكار والسلوك، وأن لا نقابل الظلم بظلم مثله (وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ۚ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ).
وما أجمل وسطية أهل السنة والجماعة حين وضعوا قاعدة ذهبية لضبط منهج الرد على المخالفين، بقولهم: (لا ترد البدعة ببدعة، ولا يقابل الغلو بالتفريط، ولا التفريط بالغلو).
وما أجمل النص القرآني وهو يصور حال المؤمنين يوم الحديبية، وكيف لزموا كلمة التقوى، ولم يقابلوا حمية قريش الجاهلية بحمية مثلها، رغم أنهم كانوا في أشد ساعات الغيظ والابتلاء: (إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ ٱلۡجَاهِلِیَّةِ، فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ).
وما أجمل الإعلان النبوي لتحرير الإنسان في خطبة الوداع يوم الحج الأكبر: (أيُّها النّاس، إنَّ ربَّكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عَجمي، ولا لعَجمي على عربي إلّا بالتَّقوى، إنَّ أكرَمكم عِندَ اللهِ أتقاكُم).
وما أجمل الخطاب التربوي النبوي الحاسم وهو يجتث جذور العصبية من قلوب المؤمنين، حيث لا مجال لاجتماع الحمية الجاهلية مع رابطة الإيمان والتقوى: (دعوها فإنها منتنة)، (إنَّ اللهَ أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ، مؤمنٌ تقيٌّ وفاجرٌ شقيٌّ)، (لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامٍ، إنما هم فحمٌ من فحْمِ جهنمَ، أو لَيكونُنَّ أهونَ على اللهِ من الجِعْلانِ التي تدفعُ بأنفْها النَّتِنَ).
كم نحن بحاجة اليوم -ونحن وسط معمعة صراع العصبويات الضيقة- أن نستلهم هذا المنهج العظيم في سلوكنا الشخصي، وفي برامجنا التربوية والإرشادية، وفي مواقفنا السياسية!.
أما الواقع والتجربة فيشهدان أن التطرف في الأفكار والمواقف يؤديان بالضرورة الى تطرف مضاد، وأن العصبيات الجاهلية تتغذى وتنمو بتطرف العصبيات المضادة لها، وبالتالي فإن التعويل على راية عمية رهان خاسر سياسيا لمن يحلم باستعادة دولة واستقرار وطن، فالعصبيات نقيض موضوعي لمشروع الدولة، وهي أمضى سلاح في تمزيق نسيج المجتمعات ووحدة الأوطان.