يلتفت العالم والمشرق العربي، خصوصاً أهل الخليج، لما يحدث في العراق بقلوب واجفة، فالعراق بوابة الخليج الشمالية والجناح الشرقي للعرب، وما يحدث فيه يسمع في الجوار، خصوصاً إن كان سلباً. ما يحدث في العراق اليوم ليس سهلاً أو هيناً، ولا يمكن أن يصل إلى نتائج مستقرة في القريب. منذ مطلع القرن، وبعد سقوط النظام السابق، حدثت توافقات سياسية هشة بين المكونات العراقية المختلفة على أساس تقسيم طائفي - عرقي، لم يكن أي مكون فيه راضياً عن تلك التسويات، وتجاهل الشركاء الجدد في الحكم أن علة العراق هي أكبر مما يظهر على السطح وأصعب من أن تحل. لعلي أبدأ بالقول إن الهيمنة السياسية الإيرانية، ليست كما يراها المتعجل محصورة في حضور قائد «فيلق القدس» إلى بغداد بين فترة وأخرى، سواء كان قاسم سليماني أو إسماعيل قاآني، فقائد «الفيلق» المكلف إدارة الحكومات في الجوار المسيطر عليها من طهران له في كل عرس قرص! ويسير مجموعات سياسية عراقية في ركب «نصائحه»، أو ربما «توجيهاته»، على عظم ذلك فإنه ليس الأكثر أهمية في عناصر الهيمنة الإيرانية، كما أن تلك الهيمنة ليست في التسلط على الاقتصاد العراقي، على ما في ذلك عنت وتبعية، ولا حتى تنظيم جماعات مختلفة للاغتيالات من خلال مجموعات عصابية، كل ذلك مشاهد كان وما زال مدمراً للعراق، إلا أنه ليس أهم وأعمق مما يعرف بالتأثير (الهيمنة) الإيرانية. ما هو الأخطر بمراحل في أدوات الهيمنة هما قضيتان؛ الأولى «هيمنة رجال الدين على العمل السياسي العراقي»، فكثير من زعماء الأحزاب الشيعية، وفي وقت ما السنية أيضاً، هم رجال دين مباشرة أو ملتحفون بالدين، كما أن «المرجعية» التي يشير إليها المواطنون العراقيون، ويأتمر بأمرها كثير منهم، هي نتيجة مباشرة للمثال الإيراني المطبق، أما القضية الثانية فهو إنشاء ميليشيات تابعة أو مستقلة عن الأحزاب، تحمل السلاح خارج سلاح الدولة، تسمى المجموعات الولائية، وهي بهذا الاسم تعني أن ولاءها خارج الحدود، كما أنها تعيش إما على الابتزاز أو المتاجرة بالممنوعات التي خربت عقول كثير من الشباب العراقي. بهاتين الأداتين تتحكم إيران في الواقع القائم في العراق، وبهما يمكن أن تتحكم في المستقبل، بقية الأمور تفاصيل، وقد تبين في الأزمة الأخيرة أن آخر من يعلق على الوضع العراقي هو متخذ القرار في طهران، لأنه متأكد أنه على أي ضفة سوف ينتهي الصراع فهي سوف تصب في صالحه، لذلك فالتصريح الواضح القادم من إيران تجاه ما يحصل في العراق يقول «تلك صراعات داخلية عراقية»!! في هذا الفضاء الذي يمكن تسميته «تسييس المقدس»، أو «الاستثمار السياسي» برأسمال ديني - مذهبي، وهو ملخص المعضلة السياسية العراقية القائمة، وليس من المحتمل أن يتلاشى هذا التأثير في القريب المنظور. لذلك ستبقى المعضلة العراقية السياسية قائمة. يسرع البعض في الاعتقاد أن المجاميع التي احتلت مقر البرلمان العراقي تطالب أو سوف تحقق الإصلاح؛ بمعنى إقامة دولة مدنية يتساوى فيها المواطنون ويحكمها القانون الوضعي. المنظر الذي نقلته محطات التلفزة العربية من داخل المجلس المحتل، أو قريباً منه، يظهر نوعية التفكير والتصرف، فقد انقلب الاحتجاج وبسرعة لأهزوجات دينية وضرب على الصدور وحتى ترتيب موكب (زنجيل) داخل البرلمان العراقي! ذلك ليس توجهاً لإقامة دولة مدنية! في الوقت نفسه التي أزجت بعض الشخصيات المحسوبة على الزعيم أنواعاً من التسميات له، ترقى أن يكون «معصوماً ومقدساً» وملهماً، تذكرنا بأشباه ما أطلق على القمعي صدام حسين في وقته. على الطرف الآخر، فإن الجماعات الأخرى التي تسمي نفسها «الإطار»، إما تقاد برجال الدين (المذهب)، أو تتمسح بأقوال طائفية ملؤها الكراهية للآخرين، كما في تصريحات السيد نوري المالكي، الذي قال مرة إن «معركة كربلاء لم تنته» في محاولة مستهجنة ومعيبة لأي عاقل لشد العصب الطائفي استثماراً سياسياً، مع تجاهل أو حتى تحقير لبقية المكونات الاجتماعية العراقية الأخرى. الأكثر سوءاً في هذه الساحة أن عدداً من المثقفين العراقيين انساقوا وراء «تسييس المقدس»، واستخدموا قدراتهم الكلامية في تسويق ذلك التسييس، لكن بمفاهيم حداثية منها الإصلاح واجتثاث الفساد. ما همش في الساحة العراقية هو الفكر المدني الحديث، ومن ينادي به، وهم ليسوا قلة، لكن صوتهم خافت نتيجة الترهيب وحتى القتل، فقرر بعضهم الصمت وآخرون هجروا البلد دون رجعة. المشروع الإيراني في العراق أن يكون المكون الشيعي موحداً ومتفرداً بالدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، والمثال الناجح له هو لبنان، فلا صوت شيعي في لبنان «خارج الثنائي»، إلا أن هذه المحاولة فشلت في العراق رغم كل الضغوط. ينقسم المكون السني في العراق إلى قسمين؛ سياسياً، وكذلك المكون الكردي، وبدا أن شد العصب الطائفي الشيعي يمكن أن يدير العراق رغم فساده، إلا أن المحاولة قد فشلت، بخروج الصدريين عن المسار. إلا أن الصدريين رغم شعارتهم العامة من محاربة الفساد واجتثاث الفاسدين، ومد اليد إلى المكونات الأخرى السنية والكردية، ما زالت معارضتهم من لون واحد، أي معتمدة على الجماعات الشيعية المتضررة، ولم تشارك حتى الآن أي مجموعة وازنة من المكونات العراقية الأخرى، للعبور إلى دولة مدنية حديثة وقانونية يتساوى فيها المواطنون، ما زال الارتكان على «المقدس»، وعلى القائد الذي لا يعرف أحد خارج ربما الحلقة الضيقة، ما يفكر فيه وما يرغب في تحقيقه بالضبط. المشهد حتى الآن يشي ببداية فشل للمشروع الإيراني في العراق، فالعراق به من النفس العربي الذي لا يمكن أن يُغلب وإن ضعف، كما أن طبيعة العراقيين صعب حكمهم بسبب التكوين العشائري الريفي المكون لأغلب الشعب العراقي. حتى الساعة لا يبدو أن هناك وضوحاً فيما سوف يذهب إليه العراق، إلا أن المؤكد أن ما مضى من سنوات منذ سقوط النظام السابق، لم يعد بالإمكان استمراره أو حتى ترميمه، كما أنه ليس من المحتمل أن يعبر إلى دولة مدنية حديثة، فليل العراق طويل. آخر الكلام: يقول على الوردي أستاذ الاجتماع العراقي: «الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، ومن يريد أن يبقى على رأيه، كمن يريد أن يحارب سلاحاً نارياً بسلاح عنترة بن شداد»!
نقلا عن الشرق الأوسط