كتب/ وليد فارس
الرأي العام العربي ومن خلفه حكوماته، يتابعون بتعجب، وأحياناً بقلق، تطور الأحداث السياسية الداخلية في الولايات المتحدة وانقسام الأحزاب وبعض المؤسسات، حول كل ملف تحت السماء بدءاً بالأزمات القانونية ومروراً الاقتصادية فالاجتماعية، وأخيراً لا آخراً الأزمات السياسية الحادة ومنها بالطبع المواجهة بين معسكري بايدن وترمب. وأخيراً "الغارة" على منزل الرئيس السابق في مارا لاغو، فلوريدا. وعلى أثر إنزال الـ "أف بي آي" في ما كان يسمى "البيت الأبيض الجنوبي"، اندلعت إحدى أكبر المعارك العدلية تقودها وزارة العدل الأميركية حول وجود أو عدم وجود وثائق "سرية للغاية" Top Secret أم لا، داخل دارة ترمب في بالم بيتش، وبموازاة هذا الصدام بين المحققين والمحامين قضايا أخرى تفجرت وتتفجر مع المدعي العام، ودعاوى تنهمر على الرئيس السابق الجمهوري من ولايتي نيويورك وجورجيا. صراع سياسي مستمر منذ خريف عام 2016، لم يتوقف أبداً، لا خلال أربع سنوات من ولاية ترمب ولا طوال سنتي بايدن تقريباً.
هذا الوضع أثر بالعمق في قدرة واشنطن على إدارة سياستها الخارجية "بارتياح تام" بسبب التردد بين ثلاث إدارات والانقسام السياسي الداخلي الحاد الذي ينعكس على المسائل الخارجية، بما فيها طريقة الانسحاب من أفغانستان، ومحاولة العودة إلى الاتفاق النووي، وطريقة معالجة الحرب في أوكرانيا، وعدم إيقاف الضغط الصيني على تايوان، واستمرار إطلاق الصواريخ الباليستية من كوريا الشمالية والفشل في كبح جماح الانفلاش الإيراني في المنطقة. الأزمات الداخلية لا تساعد كثيراً في إيجاد وحدة صف داخلية من ضمن ثنائية الحزبين لتدعم الإدارة في تنفيذ سياساتها الخارجية، فكلما تعمق الشرخ الداخلي كالحاصل بين بايدن وترمب، كلما صعبت الملفات الخارجية. لماذا؟ لأنه تقليدياً ولكن ليس دائماً، تحتاج الكتل التشريعية إلى توقيع الحزب الآخر لتجعل من مشاريع قوانينها تشريعات صلبة وليس تشريعات تتهم "بالآحادية الحزبية"Partisan Politic ، وليس الانقسام الحاد للكونغرس، لا سيما إذا اصبح الاختلاف حول ملفات عدلية أو تحقيقات جرمية، إلا ليضعف صلابة ورصيد العمل الخارجي، وهذا ما بات يحدث منذ الخلاف الأخير والمستمر بين البيت الأبيض ورأس المعارضة، والوضع قد يزداد تعقيداً إذا سيطر الجمهوريون على الكونغرس أو أحد مجلسيه في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. لأن حلفاء ترمب قد يسيطرون على الكتلة الجمهورية داخل الكونغرس، وسيتمكنون من شل التعاون التشريعي مع البيت الأبيض مما سيعقد العمل الخارجي أكثر لأشهر إن لم يكن لسنتين. وفي ظل هكذا واقع كيف ستتحرك الدول الخارجية وبخاصة في الشرق الأوسط؟
إسرائيل
الحكومات الإسرائيلية المتتالية عبر العقود أجادت الاستمرار بالعلاقات الخاصة مع واشنطن، على الرغم من التذبذبات أحياناً مع مختلف الإدارات كما حصل مع إدارة الرئيس جورج بوش الأب بين عامي 1990 و1992، أو إبان الانقسامات بين إدارة كلينتون والمعارضة الجمهورية الشرسة التي قادها رئيس مجلس النواب نيوت غنغريش منذ عام 1994، أو بخاصة طيلة فترتي رئاسة باراك أوباما، ورفض إسرائيل للاتفاق النووي. وأخيراً خلال أول ستة أشهر من العام الجاري، مع انتقاد إسرائيل لاستئناف الإدارة التفاوض للعودة إلى الاتفاق، فخلال كل تلك المراحل المتأزمة تمكنت الحكومات الإسرائيلية من التركيز على أهداف الأمن القومي لديها على الرغم من الانقسامات داخل واشنطن، وتحاول إسرائيل جاهدة أن تحافظ على مكاسبها، من نقل ترمب السفارة الأميركية إلى القدس، إلى توقيع "معاهدات أبراهام"، إلى التسليح الضخم الذي حصلت عليه من الحزبين الأميركيين، إلا أن تموقع إسرائيل أسهل من تموقع العرب في التعاطي مع الولايات المتحدة. فهي دولة واحدة وليست تكتلاً من الدول، ولها "لوبي" واحد وليس "لوبيات" بمطالب مختلفة، ولها أجندة واحدة وليست حاجات مختلفة، وأخيراً ساحات نزاعها محدودة وليست موزعة كساحات التحالف العربي، ومع ذلك فتعاطيها مع واشنطن عند وجود انقسام فيها ليس سهلاً، فكيف إذاً هو الوضع مع دول التحالف العربي، أو كيف يجب أن يكون؟
التحالف العربي
تحالف الدول العربية المعتدلة تمكن في العام الأول من اجتياز مرحلة ترمب الرئاسية إلى مرحلة بايدن بهدوء نسبي نظراً إلى الأزمة غير المسبوقة التي أنتجتها أزمة الانتخابات وانتقال السلطة بين الإدارتين، وعلى الرغم من استمرار انقسام واشنطن بين المعسكرين داخلياً، وانعكاس هذه التحديات خارجياً، عبر رفع الحوثيين عن لائحة الارهاب، والعودة إلى محادثات فيينا، والانسحاب من أفغانستان، وتخفيف تصدير الأسلحة إلى أقوى دول في التحالف، وحاول بعضهم تفسير هكذا مواقف للإدارة بأن تلك الدول أنجزت خطوات كبيرة مع الإدارة السابقة، إلا أن دبلوماسية التحالف نجحت في إعادة التموضع، ليس بنقل البندقية السياسية من كتف إلى كتف، أي انتقاد الجمهوريين لاستمالة الديمقراطيين، أو العكس في الخريف المقبل، ولكن عبر الاستمرار بالأجندة العربية الاستراتيجية دون لف ودوران، والتكتل القوي حول هذه الأجندة، وعدم التأثر بالانقسام الداخلي الأميركي، وعدم التلاعب فيه، وبقاء أبواب التعاون مفتوحة مع "الدولة الأميركية" بكاملها، بسلطتيها التنفيذية والتشريعية، وبحزبيها، والاستمرار بالتقدم دون التعثر، واستمرار في العلاقات مع الوزارات والسلطات المعنية بملفات دول التحالف، والتواصل مع الكونغرس بحزبيه. استمرت العلاقات بين حكومات التحالف وواشنطن مستقرة حتى حرب أوكرانيا، ومن بعدها توجهت إدارة بايدن إلى "قمة جدة" وقدمت باقةً من المساعدات الاستراتيجية الثنائية وعززت العلاقات مع الكتلة المعتدلة وكأن الوضع الداخلي في أميركا لا انقسام فيه، ولا تأثير له في السياسة تجاه المنطقة، مما أثبت أن دبلوماسية الخط الاستمراري لمؤسسات التحالف نجحت باجتياز تحدي الانقسام الداخلي في أميركا ما سمح بعودة العلاقات الطبيعية هذا العام.
الانقسام يتعمق
إلا أن الانقسامات باتت تتعمق في السياسات الأميركية، لا سيما منذ "تفتيش منزل ترمب في فلوريدا". وبات الصراع العدلي مفتوحاً بين السلطات القضائية ومحامي ترمب و كل الاحتمالات مفتوحة على السيناريوهات الدراماتيكية. الضغط على الرئيس السابق يتعاظم والتواصل معه ومع كتلته من قبل دول أو جهات خارجية بات تحدياً، بينما التواصل مع رؤساء سابقين كأوباما، وكلينتون، وبوش، لا يزال عادياً. فهل تنقطع الدول العربية عن التواصل مع الرئيس السابق لأنه بات تحت ضوء الملاحقة القانونية؟ ولكن المسألة ليست بهذه السهولة، فترمب بات الرجل القوي في الحزب الجمهوري دون منازع ومرشحوه يحصدون مقاعد المرشحين الجمهوريين بأعلى النسب. أي إنه إذا انقلب الميزان في الكونغرس، فسيتحول الرئيس السابق بين ليلة وضحاها إلى "القائد الأعلى" للأكثرية الجديدة، أي إلى ند الرئيس بايدن منذ نهاية يناير (كانون الثاني) 2023، مما سيضع العالم الخارجي أمام حال جديدة تفرض على الحلفاء أن يتعاطوا مع قوتين في واشنطن وليس قوة واحدة. إذاً فالمرحلة الأدق في الانقسام الحالي هي بين الآن ونهاية العام. وهنا يُطرح السؤال عند عرب الاعتدال، ما العمل؟
المسار المستقيم
كما نفذوه منذ العام الماضي، ليس هناك أمام عرب التحالف إلا الاستمرار بالدبلوماسية الحكيمة التي لا تتدخل بالشؤون الداخلية الأميركية وتتعاطى وفق المبادئ الثابتة والمستقرة، أي عملياً:
١. التركيز مع واشنطن على الملفات الخارجية والإقليمية، بعكس إيران التي تتدخل عبر شبكاتها في السياسات الأميركية.
٢. التقدم بحزم باتجاه الملفات الكبرى في المنطقة، كإيران، و اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، ومعاهدة أبراهام.
٣. الاستمرار بالتواصل مع القوى الفاعلة دولياً.
٤. تعزيز الدفاع المشترك للتحالف، وتقوية الأطر المناسبة لمواجهة صواريخ إيران وميليشياتها.
إن التموقع الثابت والمستقر للتحالف سيسمح له باجتياز الأزمة الداخلية الأميركية، وعند بداية الكونغرس الجديد العام المقبل، سيتعاطى التحالف مع كل المؤسسات الدستورية الأميركية بشكل طبيعي لتأمين مصالح المنطقة، وتعزيز العلاقات مع الدولة والشعب في الولايات المتحدة.
* نقلا عن "اندبندنت عربية"