فضل النقيب
فضل النقيب

الأيام السبعة التعيسة

هل أحدثكم عن الأيام السبعة (المجيدة)؟ لقد كانت (أتعس) أيام مرّت على مدينة عدن، تستطيع أن تقول أن العاصمة خلال تلك الأيام قد طُحنت، وخُبزت، وأكلت في دورة حياة أو موت كاملة، فالأمر سيّان حيث لم يعد هناك من فرق.

أخذت تتدفع على المدينة على مدار 24 ساعة جماهير غاضبة من الأرياف (على إيش غاضبة… ماتدري!) يحملون الفؤوس والهراوات والسكاكين والبنادق ينظّمون مسيرات حاشدة هادرة ويرددون شعارات (ثورية) تنادي بـ (تخفيض الرواتب واجب) و (تحرير المرأة واجب) ولكن التركيز كان على تخفيض الرواتب، لأن ذلك هو السكين التي ستحزّ رقبة المدينة التي ليس لدى أهلها أي مصدر للدخل سوى الرواتب، فمن المعروف أن (عدن) أرض بركانية قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع، وأنها أقل نقطة في قارة آسيا بأسرها تسقط فيها الأمطار.

وبين عشيّة وضحاها جرى اعتقال حوالي خمسة آلاف موظف بصورة غير قانونية ومن قبل المتظاهرين أنفسهم، ولكن الجهات التي كانت تستقبلهم وتعيد تأديبهم وفق (النهج الجديد) كانت جهات منظمة، وقد أصيبت العائلات برعب لا مثيل له لأنها لم تكن تدري ما مصير المعتقلين المخطوفين هل أصبحوا طعماً للأسماك أم أنهم مازالوا أحياء يرزقون.

طبعاً توقف الانتاج الزراعي في المحافظات المتاخمة للعاصمة فقد كانت الجرارات معها جميع وسائل النقل تحرث مدينة عدن، وكان نصيبنا في الإذاعة غارة مجلجلة بقيادة (شاعر الجياع) علي مهدي الشنواح، وكان أول ما لفت نظرهم التكييف المركزي وكان الجو في الخارج (جهنم الحمراء) فقرر (الشنواح) أن هذه (بورجوازية) لا مثيل لها فتم إغلاق التبريد، مما ألهب الأجهزة فتوقف الإرسال بعد دقائق، فانقعطت عدن عن العالم وفهم كثيرون أن التبريد إذا لم يكن ضرورياً للبشر، فإنه ضروري لبعض الآلات.

في تلك الأيام (المجيدة) اختلفت السُّلطات التي كنا نعرفها، أو أنها هبطت تحت الأرض بانتظار انتهاء العاصفة المدمرة، ولم تظهر إلاّ بعد حين وقد حزمت أمرها في أنه لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد، وبذلك دخلت البلد في نفق مظلمٍ جديد.

من طرائف تلك الأيام أنني ذهبت للغداء في مطعم (التحالف) الشهير، فضبطت (شاعر الجياع) وأمامه بعض الخبز، و (وصلة) لحم يأكل في زاوية مظلمة، وما أن ناديته باسمه وأنا أقول له: “هنيئاً مريئاً يا بن الشنواح” حتى أصيب بخوف وذعر شديدين، فترك اللحم والخبز وخرج يهرول وهو يتضوّر جوعاً بكل تأكيد… لكم حزنت عليه، ولا أزال أشعر بالذنب إلى اليوم لأن المسكين ربما ظن أنني سأكتب تقريراً عن هذه (البرجزة) قد يفقده لقبه الشهير، ومصدر رزقه… ولله في خلقه شؤون.