بعدما تلقى الرئيس دونالد ترامب الرصاصة في أذنه اليمنى، وسمع أزيزها تنهش غضروفها، تلطى خلف المنصة، ثم تهاوى تحتها. التف وارتمى حوله عناصر الأمن الخاص. ساعدوه على ارتداء حذائه، نهضوا به ليقف ثم حملوه ليمشي. رغم ذلك، ورغم الرعب البادي في عينيه، تماسك الرجل، والتفت، وسط صراخ الجمهور وعويله، لوّح بذراعه، ثم رفع قبضته في الهواء مصمماً، مهدداً ورافعاً شعار الانتصار. أمام هذا المشهد الدرامي البارع للزعيم الكاريزمي الأوحد للجمهوريين، لن يفوت أي مواطن أميركي أن يقارنه فوراً بهزال بايدن الكارثي في مناظرته الكارثية قبل أسبوعين. المجرم الذي حاول قتل ترامب شاب في العشرين من بنسلفانيا. وبحسب الفيديو الذي وضعه على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه يكره الجمهوريين ويكره ترامب. رغم ذلك، سبق له أن سجل نفسه كجمهوري لفترة، ثم ما لبث أن تبرع بمبلغ بسيط للحزب الديموقراطي. لكن ثمة معلومات أولية، أن الأمر اختلط على عناصر الأمن الخاص، عندما رأوه حاملاً بندقية قناص على سطح البناء المقابل وأنهم ظنوه واحداً منهم. لكن ما إن بدأ هو إطلاق النار، حتى عاجلوه في أقل من ثانية بطلقات قاتلة. وثمة من يقول إنه لولا ذلك، لكانت فرص اغتيال ترامب أكبر بكثير. ولو حصل وقُتل ترامب، يصعب علينا استبعاد حرب أهلية أميركية معلنة في شوارع المدن الأميركية. بالنسبة إلى ترامب، ستتيح هذه الحادثة، كما سيتيح له أداؤه الكاريزمي، فرصة ذهبية للملمة والتفاف قواعد الحزب الجمهوري من حوله. كما لا شك في أنه بأدائه القيادي لحظة الشدة، سيعزز صورته الشخصية أمام الجمهور الأميركي العام. ويبدو ذلك من خلال صعود العصبية الحزبية داخل الحزب الجمهوري منذ الآن، كما تعبر عنه الشعارات الحماسية الظافرية والانتقامية التي يتم تحضيرها للمؤتمر الحزبي العام بعد يومين. بالنسبة إلى الحزب الديموقراطي، يجد جو بايدن نفسه أمام حزب متشكك ومنقسم، وحملة انتخابية مضطرة لتبديل شعاراتها وخطابها في اللحظات الأخيرة بهدف النأي بنفسها عن تداعيات محاولة الاغتيال، إذ ليس ثمة أصعب وأكثر تعقيداً من الوضع الذي يواجه الحزب الديموقراطي. وفيما يتهم خصوم الحزب الديموقراطي الرئيس بايدن بالعُته، ليس ثمة ضرر أكبر يمكن أن يحدث لفرصه الانتخابية، من محاولة اغتيال خصمه بعيد المناظرة الكارثية. لا يمكن أن نتصور عاصفة أكثر اكتمالاً تكون كفيلة بثقب آمال بايدن. يختمر الانقسام العميق البادي الآن في المجتمع الأميركي منذ سنوات، وخاصة منذ الأزمة المالية عام 2008. وتسمح الدراسات الاجتماعية للمجتمع الأميركي باكتشاف خطوط الانقسام في صفوفه. فالانقسام واضح على الخطوط بين الأجيال والأعراق والأقليات، إضافة إلى الانقسام حول موضوع الجندر وتهميش الحزام الإنجيلي وقضية المهاجرين الخ.. على وقع التغير العاصف الذي يؤججه جموح مجتمع الأعمال، تعيش الولايات المتحدة، كل أربعين إلى خمسين عاماً، أزمة هيكلية تعكس الحاجة إلى تطوير نموذجها الاقتصادي وبنيتها السياسية، بل قيمها ذاتها. في الفترة ما بين نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، مرت أميركا بلحظة مشابهة، إذ قُتل الرئيس كينيدي وأخوه ثم مارتن لوثر كينغ، ثم نمت حركة الهيبيز والاحتجاجات الاجتماعية، إلي حد جعل الباحثين يتوقعون انهيار أميركا وسقوطها في يد الشيوعية. والآن تتعمق عناصر الأزمة، وتحتدم عوامل الانقسام أكثر من الأزمة السابقة. وتبدو مظاهر العنف في مختلف مفاصل الحياة السياسية على مستوى الخطاب والإعلام وصناع الأشخاص والمناورات وقطع أي طريق على التوافقات داخل الكونغرس، والولايات إلخ.. حتى الآن، لا يبدو أن ثمة بنية تنظيمية وراء محاول الاغتيال. لكن التحقيق لا يزال في أوله ويبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات. نظرية المؤامرة المتبادلة بدأت تسري كالنار في الهشيم لتعمق من الأفكار المسبقة وتزيد من دعوات الطرفين إلى الاختيار بين "الخير والشر". ولن تساهم هذه التطورات إلا في مزيد من الانقسام والعنف ونظرية المؤامرة. لذلك، لن تنفع في رأب هذا الشرخ الفادح بين صورة الرجلين ترامب وبايدن، لا خطابات الزعماء الديموقراطيين بـ"أن ليس ثمة مكان للعنف في أميركا"، ولا صلوات بايدن وزوجته كي يتعافى ترامب، ولا تبريد الخطاب السياسي للحزب الديموقراطي ومراجعته. وإذ يروج ترامب لنفسه كرئيس قوي قادر على مجابهة المؤسسة الفاسدة، ستوفر له هذه الحادثة وصورة الزعيم الأوحد القوي الذي يرفع قبضة النصر، المزيد من المبررات لتطوير سياسته الهادفة إلى تصفية وجود الحزب الديموقراطي في مفاصل الدولة الأميركية، بما فيها الأجهزة المركزية والقضاء. تاريخياً لطالما كان الحزب الجمهوري يستند إلى قاعدة ضيقة، لكنها قوية ومتماسكة. وبدوره تمكن ترامب خلال رئاسته من إطاحة الزعامة التقليدية للحزب الجمهوري، ليس فقط من البيت الأبيض والكونغرس، بل من القضاء وحكام الولايات ومجالسها. في المقابل، تمكن القادة الديموقراطيون في السنوات القليلة الماضية، من توحيد القاعدة العريضة للحزب التي تقسمها الأجندات المختلفة لكتل الحقوق واليسار. لكن الأداء الكارثي للرئيس بايدن في المناظرة الأخيرة عاد ليقسم الحزب ويقسم داعميه الماليين.
لا أتوقع أن يتبدل خطاب الرئيس السابق ترامب الانقسامي. وفي المقابل، فإنني أرجح بقوة أن بايدن لن يكون رئيساً للولايات المتحدة عام 2025. لذلك، ولكي يسترجع الحزب الديموقراطي مبادرته، ويعالج فرصه المتدهورة، لن يكون أمامه إلا دفع بايدن للتنحي، وإتاحة المجال لصعود مرشح ديموقراطي كاريزمي بديل، يعيد صوغ خطاب الحزب، ويجسر جسور الصراعات بين الكتل المتعددة المشارب والأعراق. لذلك لن يرأب الثقب في أشرعة الديموقراطيين إلا استبعاد الربان الحالي بايدن، ونصب ربان وأشرعة جديدة. سوى ذلك، أرجح أن نشهد تبعثراً للديموقراطيين، ليس فقط بفضل نجاح ترامب من جديد رئيساً للولايات المتحدة، بل بفضل سيطرة الجمهوريين على الكونغرس أيضاً.
*نقلاً عن "النهار"