المناكفة السعودية والمشروعان التركي والإيراني

عربي ودولي
قبل 3 سنوات I الأخبار I عربي ودولي

أرادت الرياض أن تناكف أنقرة، فعقدت اتفاقا عسكريا مع اليونان، يتضمن استئجار بطارية باتريوت، بدلا من تلك التي قامت الولايات المتحدة بسحبها، كما يتضمن إجراء مناورات مشتركة.

تقلق الرياض، ومن حقها ذلك، من أن أنقرة تقيم قاعدة عسكرية في قطر، تشكل شرخا في جدار الدفاع الخليجي المشترك. ولو أنها اندفعت لتقيم قاعدة عسكرية في اليونان، لكان بوسع أنقرة أن تقلق أيضا. هكذا تتوازن الأمور. ولكن الميزان بقي مختلا.

يستطيع المرء أن يراهن على أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول في نفسه، لو أنه كان يملك نصف موارد وإمكانيات السعودية لعاد جنوده يقفون على أسوار فيينا. إلا أن حظه العاثر جعله مكبلا باقتصاد يكافح جبلا من الديون، ويعجز عن توفير الاحتياطات التي يمكنها أن تغطي طموحاته.

تملك السعودية أن تقول لكل نزعة عدوانية: إذا تعرضنا لأي اعتداء فإن العاقبة لن تكون وخيمة فحسب، بل ستكون كارثة على المعتدي، وليجرّب من يريد أن يجرب

مع ذلك، فإن اقتصاد تركيا، حتى وإن كان يقف على شفير الهاوية، بسبب التوسع من دون غطاء، فإنه كان تجربة تستحق التأمل. الشيء الأهم، هو أنه اقترن بمشروع جيوسياسي ضخم.

لا أحد يمكنه أن ينكر الآن، أن تركيا قوة إقليمية نافذة. هذه القوة تلعب أدوارا وتفرض مساومات في سوريا والعراق وليبيا، وتخوض صراعا مع اليونان وقبرص وتريد أن توسع منطقتها الاقتصادية في المتوسط، وشرعت بالفعل في أعمال التنقيب عن النفط والغاز هناك، وظلت تناطح الاتحاد الأوروبي حول حزمة من المسائل. تلعب مع روسيا بمقدار ما تلعب مع الولايات المتحدة. ولو أنها نجحت بأن تحصل على إصبع نفوذ زيادة من وراء هذا كله، فإنه سيظل مكسبا مقابل ما أثارته من ضجيج وبعض جرأة.

السعودية تبدو في وضع المستكين بالمقارنة مع الطموحات الأردوغانية ومشاريعه التوسعية.

لا يهم إن كانت وجهة نظرنا عن هذه المشاريع سلبية للغاية، ونحسب أننا جديرون بأن نقف في وجهها، لأسبابنا الخاصة، إلا أنها من وجهة نظر تركيا جديرة بالاعتبار وجديرة بأن يُدافع عنها.

في مقابل كل صاروخ يشهد مجلس الأمن الدولي على عدوانيته، ترد السعودية بألف صاروخ في ضربة واحدة

مشكلة السعودية التاريخية هي تلك الاستكانة نفسها. بعبارة أخرى، إنها قوة اقتصادية كبيرة، ولكنها من دون مشروع.

هذا ما يجعلها تبدو وكأنها ضحية لمشاريع الآخرين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة نفسها، التي تنظر إلى السعودية على أنها خزانة مال ونفط.

فقط عندما بدأت السعودية الحرب في اليمن لاستعادة الشرعية، تنفس الراغبون برؤية السعودية كقوة فاعلة الصعداء. قالوا: ها أن المعادلات الاستراتيجية في المنطقة يمكن أن تتغير إلى الأبد.

ولقد نجحت السعودية في قيادة التحالف العربي، لكي ترسي نتيجةً أين كنا لو أنها لم تأت بتلك الشجاعة التي أظهرها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في اقتحام المغامرة. وذلك ابتداءً من إفلات الرئيس عبدربه منصور هادي من الأسر، إلى تحرير جنوب اليمن وأقاليم واسعة من شماله أيضا حتى جاز لقوات الشرعية في بعض المراحل من أن تقف على أسوار صنعاء.

لقد بدا ذلك وكأنه أول المشروع. إلا أنه توقف عند هذا الحد. نجاح، ولكنه ظل ناقصا.

ماذا تملك إيران لكي تشكل تهديدا للسعودية؟ إذا ذهبت بالمقارنات إلى نهاياتها، سوف تكتشف الجواب: لا شيء حقا.

لماذا إذن تبدو السعودية أمام هذا الخصم الإقليمي الشرس، قوة مستكينة وكل ما تأمله هو النجاة بنفسها؟

لقد تجرأت إيران بعدوانيتها المألوفة أن تقصف بعض منشآت أرامكو، وما تزال توجه لها التهديدات كل يوم. فبماذا استقبلت الرياض هذا التهديد؟ لا شيء حقا.

صناعة الصواريخ الباليستية ليست مكلفة. والخبرات المطلوبة لها متاحة، وما من شيء في تقنياتها بات صعبا. أفهل تهدد إيران السعودية بما لديها من صواريخ؟ أفهل تجعلنا نضطر إلى أن نقع تحت رحمة المزاج الأميركي المتقلب حيال إيران؟ أفهل من المعقول بالنسبة لقوة اقتصادية ضخمة أن ترهن دفاعها عن نفسها بباتريوت الولايات المتحدة؟ متى نتعلم أن نقول لمن يتخلى عنا: طز؟

يمكن للسعودية بالقليل من الجهد والجرأة أن توفر لنفسها أكبر قوة صاروخية في المنطقة، وربما في العالم. إنما لتقول لإيران إن كل صاروخ يقع على أرضنا، فإننا سنقابله بعشرة. لا بمئة. وسنفعل ذلك من دون تردد، ولا اتصالات مسبقة.

يمكن لمنطق المستكين، أن يتحوط أيضا، بجعل مجلس الأمن الدولي شريكا في النظر إلى النزعات العدوانية الإيرانية. ولكن، ليس من أجل تسجيل المواقف الخجولة، وإنما من أجل الضرب بيد من حديد على المعتدي. وبجعله يدفع ثمن عدوانيته بأن يسدد تعويضات عن الخسائر.

يتوفر للسعودية حاجز دفاعي ضخم، هو الخليج العربي نفسه، ما يوفر مقدارا من الطمأنينة من أن حرب الصواريخ والطائرات لن تزداد سوءا قبل أن تجثو إيران على ركبتيها.

ما تهددنا إيران به، هو ذاته نقطة ضعفها الأهم

العراقيون طحنوا إيران طحنا بقوتهم الصاروخية. فإذا كان هناك من فضل كبير حققته مؤسسة الصناعات العسكرية العراقية، هي أنها حوّلت كل برميل صفيح وجدته في أسواق الخردة إلى صاروخ، وظلت تمطر به الحشود الإيرانية في الفاو وعلى امتداد الحدود، حتى تجرع الخميني كأس السم.

ما تهددنا إيران به، هو ذاته نقطة ضعفها الأهم.

ولكن إيران تمتلك الجرأة لأن لديها مشروعا، بينما لا تملك السعودية مشروعا قوميا أو إقليميا خاصا بها.

الاستكانة ليست مشروعا. وهي لا توفر دفاعا حقيقيا عن النفس.

في لحظة، عابرة من تاريخ المنطقة، بدت السعودية وكأنها صارت تمتلك الجرأة. وحققت ما حققت من تغيير في اليمن.

كيفما نظرت إلى المعادلة في هذا البلد، فإن هناك شرعية تفرض نفسها كقوة موازية على الأقل.

لقد حدث ذلك بفضل الجرأة.

إلا أن الحرب تواصلت، وتحولت حرب استنزاف، لأن الجرأة تراجعت. ولأن العدو الإيراني ظل هو الذي يقدم وقاحته كبديل.

الولايات المتحدة حليف؟ حقيقي؟ الله يبارك. ولكن ليس بالاستكانة. ليس بالوقوف موقف العاجز أمام النزاعات العدوانية الإيرانية والتركية. وبالدرجة الأولى، ليس من دون مشروع.

هذا المشروع يتعين أن يكون جريئا، لا بل وقحا كوقاحة مشاريع الآخرين. وتملك السعودية شعبا قويا يقف خلف قيادته ويدين لها بالولاء، ومؤسسة عسكرية صارت تمتلك من الخبرات ما يكفي، وطاقات اقتصادية هائلة يمكنها أن تشكل رافعة متينة لكي تتحول المملكة إلى قوة عسكرية مستقلة، تتبعها الولايات المتحدة فتلبي احتياجاتها، لا أن تتبع هي الولايات المتحدة فتكون سوقا فحسب، أو تقع تحت وطأة الغرام السري الدائم بين إيران والولايات المتحدة.

تملك السعودية أن تقول لكل نزعة عدوانية: إذا تعرضنا لأي اعتداء فإن العاقبة لن تكون وخيمة فحسب، بل ستكون كارثة على المعتدي، وليجرّب من يريد أن يجرب.

مشكلة السعودية التاريخية هي تلك الاستكانة نفسها. بعبارة أخرى، إنها قوة اقتصادية كبيرة، ولكنها من دون مشروع

وفي مقابل كل صاروخ يشهد مجلس الأمن الدولي على عدوانيته، ترد السعودية بألف صاروخ في ضربة واحدة. ثم تليها ألف أخرى، ثم أخرى. حتى يفهم “الولي الفقيه” كم أنه كان سفيها بالاعتداء على بلد آمن.

ساعتها لن تجرؤ إيران على أن تمس قطعة حديد من منشآت أرامكو، ولا أن تُغلق مضيق هرمز، ولا أن تزوّد الحوثي بالصواريخ.

وليست القوة هي التي تؤسس المشروع. لا تخطئ في هذا. المشروع هو ما يتعيّن أن يؤسس القوة، لكي يوجهها لخدمته.