هل تتمكن الهيئات الدستورية في تونس من إحياء دورها الرقابي

عربي ودولي
قبل 3 سنوات I الأخبار I عربي ودولي

تواجه الهيئات الدستورية في تونس تحدي إحياء دورها بعد أن طاولت المناكفات السياسية عملها وباتت تُنذر بإنهائه على وقع تزايد الاتهامات لتلك الهيئات سواء حول حياديتها أو طرق تنفيذ عملها وغيرها من الاتهامات.

وسلط استدعاء القضاء لأعضاء ورئيس هيئة الاتصال السمعي البصري (الهايكا) للتحقيق بعد أن اتهمها رئيس إذاعة “القرآن الكريم” النائب الإسلامي سعيد الجزيري بـ”محاولة الاغتيال والسرقة”، الضوء مجددا على هذه الهيئات خاصة أن هذا التطور تزامن مع اتهامات لهيئة الانتخابات بأنها مخترقة من طرف أحزاب سياسية.

والهيئات الدستورية في تونس فيها من تنتظر أن يتم انتخاب أعضائها وفيها هيئات لم تُستكمل بعد، حيث أفضت الخلافات السياسية المتزايدة إلى تعطيل تلك الهيئات ما جعل العديد من الأطراف تشكك في شرعيتها القانونية أصلا، وهو ما يضع تنفيذ قراراتها على المحك.

ومَثُلَ رئيس الهايكا النوري اللجمي أمام فرقة الأبحاث العدلية بمدينة زغوان وسط تنديد من قبل جمعيات ومنظمات رأت في التحقيق مع الرجل وبعض أعضاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري خرقا جسيما خاصة أن ذلك يأتي على خلفية قيام الهيئة بدورها وهو تنفيذ قرار أصدرته بشأن “إذاعة غير قانونية”.

وقال الإعلامي والمحلل السياسي إبراهيم الوسلاتي إن “الهيئات الدستورية الأربع التي أحدثها دستور 2014 غير خاضعة للمساءلة وتعمل كسلط فوق السلطات ووفرت لها الدولة إمكانيات مادية وبشرية هائلة ويقع انتخاب أعضائها من طرف البرلمان مما يسمح للكتل الكبرى من فرض مرشحيها الذين تقترحهم ومع ذلك لم يتمكن هذا البرلمان من إرساء سوى هيئة الانتخابات”.

وتابع في تصريح لـ”العرب”، “ولأنّ أعضاء هذه الهيئات يقع انتخابهم من طرف ممثلي الأحزاب في البرلمان فقد انتفت عنهم صفة الاستقلالية”.

تعطيل عمل الهيئات

فجّر استدعاء القضاء التونسي لأعضاء من الهايكا نهاية الأسبوع الماضي جدلا خاصة أن الهياكل المهنية في القطاع الصحافي والسمعي البصري تعتبر أن هذا الاستدعاء يأتي على خلفية تنفيذ الهيئة لقراراتها، ما يعكس رغبة وفق هؤلاء في تعطيل عمل الهيئة.

وقالت هيئة الاتصال السمعي البصري إن استدعاء “رئيسها ومراقبين تابعين للهيئة للمثول أمام فرقة أمنية عقب شكوى رفعها صاحب القناة الإذاعية غير القانونية ‘القرآن الكريم’ النائب سعيد الجزيري بتهمة ‘السرقة ومحاولة الاغتيال’ وذلك إثر عمليّة حجز معدات البثّ التابعة للقناة، التي قامت بها الهيئة بتاريخ 17 مارس الماضي، تعد مؤشرا خطيرا يرمي إلى المسّ من صلاحيات الهيئة”.

واعتبرت الهايكا أن هذه الشكوى تهدف إلى  الحدّ من ممارسة الهيئة  لسلطتها في تعديل المشهد السمعي والبصري بالاعتماد على أدوات وإجراءات من بينها عملية الحجز التي يقوم بتنفيذها أعوان محلفون تابعون للهيئة، طبقا للفصل 32 من المرسوم 116 لسنة 2011 المؤرخ في 02 نوفمبر 2011.

وفي أول ردود الفعل نددت أكثر من 32 جمعية ومنظمة بالاتهامات الموجهة من النائب الإسلامي الجزيري للهايكا خاصة أن الرجل سبق له أن قام باعتصام مفتوح أمام الهيئة برفقة أنصاره مرددا شعارات رأى فيها مراقبون تحريضا صريحا ضدّها.

ولكن محاولات تعطيل عمل الهايكا ليست وليدة اللحظة حيث تعمد أي وسيلة إعلامية تستهدفها الهيئة إلى استعمال أسلوب التخفي وراء مقولة أنها غير شرعية، إذ تَعَطّل انتخاب أعضائها من البرلمان إلى حد الآن، وهو ما تجده الهيئة مبررا لاستمراريتها بتركيبتها الحالية.

ولم ينجح البرلمان التونسي الذي تعمقت انقساماته بعد انتخابات العام 2019 في انتخاب سوى أعضاء هيئة الانتخابات من جملة خمس هيئات دستورية.

وأخفق البرلمان في انتخاب أعضاء كل من هيئة حقوق الإنسان، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وذلك لأسباب سياسية حيث غابت التوافقات على المجلس النيابي لاستكمال انتخاب هؤلاء.

واعتبرت نائب رئيس نقابة الصحافيين التونسيين أميرة محمد أن “هناك اتهامات للهايكا بأنها غير شرعية، لكن ذلك لا تتحمل مسؤوليته الهايكا، بل البرلمان الذي فشل في انتخاب أعضائها”.

وشدّدت محمد في تصريح لـ”العرب” على أن هناك مساعي لضرب عمل الهايكا قائلة “هي مساعي في الواقع قديمة ومتجددة من قبل بعض الأطراف، لذلك منذ سنوات ننبه من نشاط قنوات إعلامية ليس لها صفة قانونية ومن غموض تمويلها، نحن ندعم عمل الهايكا في ظل وجود فراغ قانوني”.

وأوضحت أن “سعيد الجزيري مثلا وصل إلى البرلمان عبر توظيف وسائل الإعلام، واليوم يتم توظيف الحصانة البرلمانية والسلطة لضرب هيئة الاتصال السمعي البصري، ونحن أمام تحديات كبيرة في هذا السياق ونرفض التجييش واستغلال القضاء لضرب الإعلام”.

انحراف عن المسار

إلى جانب الهايكا، دشنت تحركات هيئة الحقيقة والكرامة التي أوكلت لها مهام كشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان الحاصلة منذ الأول من يوليو 1955، أي بعد نحو شهر من حصول تونس على الحكم الذاتي من الاستعمار الفرنسي، وحتى 31 ديسمبر 2013 و”مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتعويض الضحايا ورد الاعتبار لهم” سجالات بين أعضائها والداعمين لها وأطراف أخرى لاسيما من رموز نظامي الرئيس الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا لتحركات هذه الهيئة.

وتشمل هذه المرحلة فترات حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وحكومات قادتها حركة النهضة بعد 2011.

غير أن هذه الهيئة تواجه اتهامات متزايدة من قبل الفاعلين السياسيين بتشويه خصوم حركة النهضة الإسلامية لاسيما من رموز النظام السابق بقيادة بن علي، علاوة على تقديم تعويضات مجزية للنهضة والتغاضي عن “جرائم” قد تكون ارتكبتها إبان فترة حكمها عندما قادت الترويكا (2011 – 2013).

وطلبت الهيئة التي ترأسها سهام بن سدرين مؤخرا محاكمة وزير الداخلية السابق إدريس قيقة (95 سنة) لأنه أعلم الباي، سنة 1957 بقرار البرلمان وبتكليف منه بقيام الجمهورية وإنهاء نظام الحكم الملكي في البلاد، وهو ما أثار جدلا واسعا حول توقيت طلب استدعاء الرجل والقضية التي باتت تلاحقه.

وقال الإعلامي والمحلل السياسي إبراهيم الوسلاتي، إن “إحالة إدريس قيقة على أنظار جلسة لدائرة العدالة الانتقالية بتونس تتعلق بتنفيذ قرار المجلس القومي التأسيسي القاضي بتنحية الأمين باي وإنهاء حكم العائلة الحسينية الذي دام 252 سنة وإقامة الجمهورية، تعتبر فضيحة وتعيد إلى الأذهان الخلفية التي سادت سواء أثناء إعداد دستور (2014) أو تمرير قانون العدالة الانتقالية والتي اتسمت بنزعة انتقامية من نظامي الزعيم الحبيب بورقيبة وخلفه الرئيس زين العابدين بن علي وبالتالي من النظام الجمهوري ومحاولة نسف منجزات الدولة الوطنية”.

وأردف “القانون وُضع على مقاس الحكام الجدد بقيادة حركة النهضة من ذلك أنهم حدّدوا بداية العدالة الانتقالية بتاريخ غرة يونيو 1955 لما لهذا التاريخ من رمزية لدى الوطنيين فهو يصادف عودة الرئيس الحبيب بورقيبة من منفاه وكان عيدا وطنيا تحت مسمى عيد النصر قبل أن يقع إلغاؤه من طرف بن علي ولكن تحت ضغط القلة من النواب الوطنيين والرأي العام تمّ العدول عن هذا التاريخ وتأخيره بشهر لتصبح بداية العدالة الانتقالية يوم غرة يوليو 1955”.

وأوضح الوسلاتي أنهم “زادوا على ذلك في الفقرة 9 من الفصل 148 للدستور الجديد الذي روّجوا له على أنه أحسن دستور أخرج للناس بعدم الاعتراف باتصال القضاء إذ ‘لا يقبل الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق سواء بتعلة اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بسقوط الزمن”، متهما السلطات بمحاولة تدنيس الرموز الوطنية وفق قوله.

وقال “لتنفيذ مخططهم الانتقامي نصّبوا على رأس هيئة الحقيقة والكرامة شخصية مثيرة للجدل (بن سدرين) لتشويه تاريخ تونس المستقلة وتدنيس الرموز الوطنية”.

وجرى في السابق إعادة محاكمة مسؤولين في نظامي الرئيس بورقيبة وبن علي وهو ما أثار جدلا من قبل أوساط اعتبرت أن العدالة الانتقالية أريد لها أن تكون على مقاس بعض الأطراف السياسية في مقدمتها حركة النهضة الإسلامية التي تسلمت مقاليد الحكم بعد انتفاضة 14 يناير.

وقال الوسلاتي إن “العدالة الانتقالية في تونس أصبحت كلمة حق يراد بها باطل لأنّها انحرفت عن مسارها الصحيح لتصبح عدالة انتقامية حيث تم توظيفها للثأر من رجالات النظام السابق وترذيل منجزات الدولة الوطنية ورموزها وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة الذي تمت محاكمته غيابيا وهو في قبره”.

تشكيك في الاستقلالية

بالرغم من مرور سنوات على إحداثها وتنظيمها لأكثر من استحقاق انتخابي إلا أن هيئة الانتخابات تُعد هيئة دستورية أخرى تواجه مطبات عديدة في إطار القيام بمهامها، حيث لم يكن عمل هذه الهيئة بمعزل عن التجاذبات السياسية.

وعكست الجلسة البرلمانية للنقاش مع رئيس الهيئة نبيل بفون نهاية الأسبوع الماضي، بوضوح الانتقادات التي باتت تُحاصر هيئته لاسيما بسبب الانتخابات الأخيرة التي أفرزت مشهدا برلمانيا منقسما ما عمق الأزمة السياسية التي تعرفها البلاد.

ورغم أن العديد من الأوساط السياسية ترى في تغيير القانون الانتخابي هو الحل الوحيد لضبط العملية الانتخابية وحمايتها من “المال السياسي الفاسد” وغيره غير أن بعض الأصوات الأخرى بدأت ترتفع للمطالبة بإيجاد هيكل آخر ينظم العملية مثل وزارة الداخلية.

وفي سياق هذه المطالبات قال النائب البرلماني مبروك كرشيد إن “لدي انتقادات كثيرة للهيئة.. من حقي التساؤل بعد العديد من المحطات الانتخابية هل فعلا تم ضمان نتائج ديمقراطية بفضل تركيز الهيئة عوضا عن وزارة الداخلية؟ بعض البلدان العتيدة في الديمقراطية مثل فرنسا مازالت تشرف على انتخاباتها وزارة الداخلية”.

محاولات تعطيل عمل الهايكا ليست وليدة اللحظة حيث تعمد أي وسيلة إعلامية تستهدفها الهيئة إلى استعمال أسلوب التخفي وراء مقولة أنها غير شرعية

وشكك كرشيد في استقلالية الهيئة قائلا “هناك أحزاب مندسة في هيئة الانتخابات وتحديدا في مكاتب الاقتراع، فالانتخابات في مدنين مثلا (جنوب) لم تكن نزيهة وديمقراطية وشفافة ورئيس المكتب الجهوي منتم لحركة النهضة وهناك منتمون حزبيا وسياسيا يديرون مكاتب الاقتراع وهناك أئمة مساجد يديرون العملية الانتخابية، وبالتالي هناك توجيه سياسي خطير جدا لإرادة الناخب عبر مكاتب الاقتراع، من الأفضل أن تشرف إدارة على الانتخابات كما هو الحال في فرنسا”.

ومن جانبه قال الوسلاتي إن “صفة الاستقلالية تنتفي اليوم على تلك الهيئات باعتبار أن أعضاءها يتم انتخابهم عبر نواب عن أحزاب، وهذا ما لاحظناه في أهم هيئة وأخطرها على الإطلاق وهي هيئة الانتخابات التي تم التشكيك في نزاهتها وحيادها”.