كعادة كل موسم رمضاني تونسي تلمع أسماء ويخفت بريق أخرى، وهي سُنّة التنافس على المشهد، أما الظاهرة الأهم في العام الحالي فأساسها ذاك الكم الهائل من الاكتشافات التي جاد بها الموسم، الأمر الذي سيثري من دون شك المشهد التلفزيوني، ولمَ السينمائي التونسي في قادم التجارب الفنية.
وهنا كان الامتياز جليا في المسلسل الدرامي “الفوندو” الذي عرضته قناة “الحوار التونسي” الخاصة على امتداد عشرين حلقة، وذلك منذ حلقته الأولى الافتتاحية والممهدّة لبقية أحداث العمل الذي يتتبّع لغز جريمة قتل ذهبت ضحيتها الفتاة “مريم” التي اتهم في قتلها زميلها التلميذ “يحيى”.
كاستينغ موفق
الكاستينغ الجيد الذي اعتمدته مؤلفة العمل ومخرجته سوسن الجمني، أفرز وجوها جديدة تبشّر بمواهب تمثيلية كبيرة بعيدا عن مدى الشبه الحاصل بين خليل العبدولي (يحيى وهو في سن المراهقة) وبطل العمل نضال السعدي، أو ذاك الحاصل بين قصي العلاقي الذي أدىّ دور “جوزيف” (مغني الراب مروان نوردو) وهو صغير، فقد أثبت الشابان إلى جانب الصبية رنيم خمير (16 عاما) التي جسّدت دور الفتاة المقتولة “مريم” عن أداء احترافي نوّه به المُشاهدون والنقاد على السواء.
والأمر ذاته انسحب على الشاب نسيم بورقيبة (19 عاما) الذي جسّد ابن “جوزيف” (مروان نوردو)، وهذا الأخير، أي نوردو، مثّل مع بورقيبة أهم اكتشافات العمل، فكلاهما لم يسبق لهما التمثيل قبلا، لكن أداءهما في “الفوندو” أتى منسجما مع طبيعة الدورين وتناقضاته بين حب أبوي أخرق لابن عاق، وابن متمرّد لكنه مُحب لوالده الذي يرى فيه قدوته وملاذه رغم سلوكياته غير السوية.
فمثّلا ثنائيا شدّ انتباه المُشاهد بعفوية أدائهما وسلاسة تعبيراتهما بالوجه قبل الحديث، وهو أمر يُحسب للجمني التي أثبتت للسنة الثانية على التوالي، بعد إشرافها العام الماضي على إخراج مسلسل “أولاد مفيدة” في جزئه الخامس عوضا عن سامي الفهري، عن قدرات استثنائية في تغيير جلد أبطالها من حالة تمثيلية إلى أخرى، وهو ما برز بشكل واضح مع نعيمة الجاني في دور “خديجة” أم يحيى التراجيدي حدّ البكاء معها تفاعلا بأدائها الصادق.
وهي التي تعوّد أن يراها الجمهور التونسي في أدوار كوميدية خالصة منذ نجاحها في دور “حدّة” في مسلسل “الخطاب على الباب” بجزأيه الأول والثاني (1996-1997). وبذلك تمكّنت الجاني من استعادة بعض من بريقها التمثيلي الجاد الذي أظهرته في مسلسل “الدوار” (1992).
كما تمكّنت الجمني من تغيير الأداء التمثيلي لياسين بن قمرة الذي بقي ولمدة خمسة مواسم متتالية سجين دور “بدر” في “أولاد مفيدة” بصوته الأجشّ وحركاته الشوارعية، فأتى صوته رصينا وحركاته هادئة دون مبالغات مُتسقين مع ما يقتضيه المشهد من هزل وجد، فيضحك بقياس وينفعل بإحساس دون زيادة أو نقصان.
والأمر ذاته انسحب على النجم كمال التواتي الذي جسّد في العمل دور الصائغي “المروكي” بأداء هادئ يخفي أكثر ممّا يظهر، ليقطع نهائيا مع صورته الكوميدية النمطية التي عرفه بها الجمهور لعشريتين عبر سلسلات “اضحك للدنيا” و”عند عزيز” و”لوتيل” و”شوفلي حل” و”دار الوزير” وغيرها، وإن تغيّرت الشخصيات فالأداء واحد، وخاصة على مستوى الصوت الذي لم يتبدّل في كل ما تقدّم، إلاّ لماما.
وهو تغيّر بدا مُمنهجا من الممثل المخضرم الذي اختار منذ الموسم الرمضاني الماضي القطع مع صورته الكوميدية ليعود إلى الأدوار التراجيدية المركّبة التي عرفه من خلالها جمهور الفن الرابع عبر مسرحيات “فاميليا” و”ضد مجهول” أو في أفلام “سلطان المدينة” و”شيشخان” و”صمت القصور”، فكان أول القطر دور “براداريس” في “نوبة 2” ثم انهمر في “الفوندو” عبر شخصية “الماروكي” الإشكالية.
ورغم حضوره الشرفي في المسلسل تمكّن الفنان محمد علي بن جمعة في ثلاثة مشاهد فقط، من تقديم أداء متميّز عكس قدرته التمثيلية على تجسيد الأدوار السيكولوجية المعقدّة، والتي ذكّرت عشاق المسرح، ولو قليلا، بدوره المرجعي “نون” في مسرحية “جنون” للفاضل الجعايبي، وهو دليل آخر يؤكّد أن في الدراما “لا يوجد دور صغير ودور كبير، بل هناك ممثل صغير وممثل كبير”.
وغير بعيد عن قناة “الحوار التونسي” تمكّن مسلسل “ابن خلدون” لمخرجه الشاب سامي فعور من إعادة اكتشاف المواهب الكوميدية لكريم الغربي في دور “فلّومة”، بسذاجته المحبّبة، وقدّم سماح الدشراوي في دور “آسيا” الفتاة المُعاصرة والمثقفة، بعيدا عن شخصية “خميسة” الريفية وصوتها الأقرع الشهير الذي عُرفت به عبر سيتكوم “نسيبتي العزيزة” بمواسمه الثمانية. كما أعاد اكتشاف القدرات الكوميدية للممثلة المخضرمة دليلة المفتاحي في تذكير بدورها الهزلي المميّز في سيتكوم “جاري يا حمودة” (2004).
وهو أمر يُحسب للمخرجين الشباب الذين لا يجدون مشكلة، البتة، في كسر القوالب الجاهزة والاشتغال من خارج صندوق المُعتاد والمتّفق عليه، فغامر فعور بإعادة المفتاحي إلى الكوميديا وغامرت الجمني بإقحام الجاني في التراجيديا بعد طول غياب، في قلب لذيذ للأدوار، فما باتت المفتاحي تلك الأم الثكلى، وما عادت الجاني تلك السيدة الأمية والسطحية.
قطع مع النمطية
مغامرة لا يأتيها إلاّ الشباب المتسلّح بروح المبادرة والساعي إلى الاختلاف كشأن عبدالحميد بوشناق الذي ما انفكّ يفاجئ المُشاهد التونسي رغم قصر تجربته الإخراجية بالتجديد والتنوّع، قاطعا مع النمطية والاستكانة في المنطقة الآمنة.
فصاحب أول فيلم رعب تونسي “دشرة”، ومسلسل “نوبة” الدرامي بجزأيه، اختار هذا العام اللعب على وتر الفانتازيا التاريخية والواقعية السحرية عبر سلسلة “كان يا ماكانش”، فنجح في الرهان بقطعه مع كوميديا الضحكات المجانية، مقترحا نصا فانتازيا يجمع بذكاء بين حكايات الماضي وتراكماته وإكراهات الحاضر السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس الثلاثة آلاف حضارة وأنين.
وقد استطاع بوشناق في هذا العمل المختلف شكلا ومضمونا تقديم العديد من المواهب التمثيلية الجديدة، لعلّ أبرزها سيف عمران في دور “مهراس” ونور الهدى الناوي في دور “قلادة”، وأخرى مخضرمة كجمال مداني في دور “خفّاش”، وثالثة عائدة إلى الدراما التلفزيونية بعد طول غياب كرملة العياري في دور “أم قلادة”، ورابعة تُشارك للمرة الأولى في الدراما التلفزيونية رغم مسيرتها المسرحية والسينمائية الطويلة، ونعني هنا فاطمة بن سعيدان في دور “أميمة”.
وراهن المخرج لسعد الوسلاتي في مسلسل “حرقة” على طاقمه التمثيلي الذي شاركه العام الماضي نجاح مسلسله “المايسترو” أمثال مالك بن سعد ومريم بن حسن وسناء الحبيب ووجيهة الجندوبي. وفي حين تألق الثالوث المذكور آنفا، إلاّ أن الجندوبي أتى أداؤها ضعيفا مقارنة بطبيعة الدور الذي يتطلّب منها انفعالات أكثر قوة، وهي الأم التي دفعت ابنها البكر ليُغامر بركوب زوارق الموت في رحلة محفوفة بكل أنواع المخاطر، فيربكها الندم إثر ذلك.
و”حرقة” هو دراما اجتماعية تعالج قضية الهجرة غير النظامية، وتبرز مخاطر الرحلة في البحر، وتلقي الضوء على معاناة المهاجرين من مفقودين في البحر وناجين في مراكز الحجز بعد وصولهم إلى إيطاليا. كما يطرح المسلسل الجانب الآخر من معاناة عائلات المهاجرين، حيث تنتظر بفارغ الصبر أي معلومة عن أبنائها التائهين بين أمواج البحر.
كما برز أيضا الممثل رياض حمدي بأدائه دور الأب المفجوع في رحيل ابنه المفاجئ إلى الضفة الأخرى من المتوسّط دون إشعار بالرحيل، فنراه يتتبّع أثره من مكان إلى آخر مجسّدا بكل حرفية معاناة بعض الأهالي مع “الحرقة” وما تعنيه من حُرقة في قلوبهم التي أدماها انتظار مصير أبنائهم المجهول.
ومن بين الوجوه الجديدة التي تألقت في المسلسل يحضر بقوة اسم الممثلة الشابة ياسمين بوعبيد التي جسّدت دور “وعد”، وهي فتاة تونسية/ إيطالية تعمل على مساعدة المهاجرين غير النظاميين، وتألقت بوعبيد في أدائها الدور بإتقانها الحديث بأربع لغات هي الإيطالية والفرنسية والإنجليزية وطبعا العربية، ما يعلنها نجمة عالمية قادمة على مهل بملامحها المتوسطية الجميلة.
وهي ذاتها التي تميّزت في تجسيد شخصية “مريم” الزوجة المخدوعة في مسلسل “أولاد الغول” لتكون إلى جانب فارس الأندلسي الذي جسّد دور زوجها “يوسف” من أهم اكتشافات المسلسل.
أما سلسلة “الجاسوس” الكوميدية التي عرضتها قناة “التاسعة” الخاصة على امتداد 20 حلقة، فكان عنوانها الأبرز تألّق مخرجها ربيع التكاري في تقديم عمل بإنتاج ضخم من نوع الأكشن البوليسي بتقنيات عالية ومؤثرات بصرية متطوّرة، إلاّ أن النص المرتبك والإيحاءات الجنسية المبتذلة التي يأتيها بين الفينة والأخرى بطل العمل لطفي العبدلي مثلّت سقطة السلسلة التي تاهت في افتعال الإضحاك دون غاية أو هدف.
كما أتى أداء العبدلي مفتعلا ومبالغا فيه من حيث الحركة، وخاصة الصوت الذي يرتفع فجأة ودون موجب ليصل حدّ الصراخ المزعج للمُشاهد ولنسقية الأحداث على السواء.
ولم يتمكّن الممثل رياض النهدي العائد إلى الكوميديا بعد طول غياب من ابتكار شخصية جديدة تضاهي في تألقها شخصية “عبودة” في مسلسل “الخطاب على الباب” بجزأيه، فمرّ دوره في “الجاسوس” دون عميق أثر.
هكذا بدا المشهد الدرامي التونسي في رمضان الذي شارف على الانتهاء، وفيا للفرجة العائلية في “حرقة” و”كان يا ماكانش”، ومحقّقا لمتعة الاكتشاف في “الفوندو” و”أولاد الغول”، ومبشّرا بالقطع مع النمطية التمثيلية في “ابن خلدون” و”الفوندو”.
ليكون العنوان الأبرز في كل ما تقدّم تمكّن قناة “الوطنية الأولى” (عمومية) من القطع أخيرا مع “الكارثة” الفنية التي رافقت أعمالها الدرامية في العشرية الأخيرة على غرار مسلسلي “27” و”وردة وكتاب”، لتعود مُنافسة على نسب المشاهدات بعد طول غياب.