اليمن

ماهو أثر البيئة الإسلامية والتصوف في شعراء حضرموت؟

محليات
قبل 3 سنوات I الأخبار I محليات

يُعرف مجتمع حضرموت بطابعٍ إسلامي محافظ أثَّر في مختلف جوانب الحياة؛ ومنها الأدب والفن، فإذا ما ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الشعر والفن والأدب في حضرموت، فإننا سنجد الكثير من علماء الدين، والمطلعين بأمور الدين الإسلامي والفقه عموماً، ممن امتلكوا أيضاً مواهب شعرية، فكان لبعضهم الدواوين والجلسات الشعرية والفنية الشعبية.

تنوعت قصائد شعراء حضرموت بين اللغة العربية الفصيحة واللهجة الدارجة. كما تنوعت موضوعات الشعر المتأثر بالبيئة الدينية؛ فقد تناولوا في شعرهم الأماكن المقدسة، وأحكام الشريعة الإسلامية، والمسائل العلمية، وتاريخ الإسلام، والحكم واللطائف، والتصوف والروحانية والأخلاق، والغزل العفيف والمحبة الإلهية.. وغيرها من الموضوعات ذات المسحة الدينية. كثير من تلك الأشعار تُنشد كقصائد دينية، أو تُغنى بألوان الفن الشعبي مصحوبة ببعض الأدوات الموسيقية؛ كالطبول والناي والعود.

مواهب مبكرة

لا عجب إن قُلنا إن بعض علماء الدين، والشعراء في نفس الوقت، قد قالوا الشعر في سنّ مبكرة، أو ذاع صيتهم حتى لا يكاد مجلس إنشادي أو فني شعبي يخلو من أشعارهم؛ وذلك بسبب مواهبهم الفذة وتربيتهم العلمية، وتوارثهم العلم والأدب أباً عن جد. ونذكر من أولئك، على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ عمر بن سقاف السقاف، المولود سنة 1154 من الهجرة، والذي قال وهو دون السادسة من العمر[1]:

صغ الكلام لكي يصغى إليــه كمـا 

صياغة الصـــائغ الصياغ للذهب

وصل وصل وواصل كل ذي رحم 

واعص نفسك والعصيان فاجتنب

كان الشيخ عمر السقاف كثير المناقشة العلمية والصوفية منذ أن كان في الخامسة من العمر، وذلك كما يذكر المؤرخ السيد عبدالله السقاف، في كتابه «تاريخ الشعراء الحضرميين». وكان شعر الشيخ عمر خليطاً متنوعاً، إلا أن الصوفية كانت غالبة فيه، ومن ذلك قوله:

كيف السلو عن الدنــيا وما فيها   

وأنت ما زلت تهوى في مهاويها

دنيـــا تغــر وعيش كلــه كـــدر    

تبـني وتهـــدم دوماً في مـــبانيها

حرص وجمع وأفكـار وأغطية 

على القلوب ولا تصفـــو لجانيها

وكما يُتوارث العلم والأدب، فإن بعض الأُسر في حضرموت قد تتوارث مهمة شؤون المساجد جيلاً بعد آخر؛ مثل الأذان والإمامة والخطابة، فتنشأ بذلك أجيال في بيئة علمية دينية أدبية تترك عظيم الأثر على مدارك الإنسان ومواهبه. ومن أولئك نذكر الشاعر المعلم محمد صالح باحفي، المولود سنة 1907 للميلاد، والذي ورث مهمة العمل كمؤذن وإمام وخطيب، كما عمل أيضاً كمأذون؛ فكان لكل ذلك تأثير واضح على أشعاره التي يقولها باللهجة الحضرمية الدارجة، ومنها على سبيل المثال:

واعزم من أم القرى مكة مع الفجرا

بسعد بو تركي المشهور حاميها

واطلع وطف للوداع الكعبة الغرّا

يا سعد من طاف وتركّع حواليها[1]

الروح الصوفية

تنتشر الصوفية في كثيرٍ من مناطق حضرموت؛ فكان لها بذلك تأثير صريح على مختلف اهتمامات روادها؛ فالصوفية، كما يشير الأديب والشاعر زكي مبارك، في كتابه «التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»، ليست مجرد مذهب، بل فطرة إنسانية وُجدت لدى البشر طوال التاريخ؛ لذلك فقد ارتبط التصوف ارتباطاً وثيقاً بالأدب والفن.[2]

يمكن ملاحظة الحضور القوي للشعر والأدب والفن في مُجمل تاريخ الإسلام الصوفي منذ نشأته؛ حتى إن الموسيقى والشعر قد استخدما عند بعض المجموعات الصوفية كوسيلة للتقرب من الله والأولياء الصالحين[3]. وتاريخ التصوف مليء بالشعراء المشهورين؛ أمثال جلال الدين الرومي، والشيرازي، ورابعة العدوية، وفريد الدين العطار، ومحيي الدين بن عربي.. وغيرهم كثير.

وفي حضرموت نجد عدداً لا يُحصى من الشعراء المتأثرين بالصوفية ومناهج الصوفية وأساليبها. ومن بين أشهر شعراء العامية في حضرموت، الذين أسهت البيئة الدينية والأدبية الصوفية في صقل مواهبهم، نذكر الشاعر عمر بن حسن الكاف، المشهور بـ”حداد الكاف”، والذي كانت حياته امتداداً لحياة والده العالم والشاعر حسن الكاف؛ إذ استمر بعد وفاة والده في طلب العلوم الدينية حتى أصبح في يوم من الأيام من رجال مجلس الإفتاء بمدينته تريم، كما كان له اهتمام كبير بالأدب والتصوف.

ومن أشعار الكاف ذات الصبغة الروحية قصيدة يا عظيم الرجاء، والتي يقول فيها:

يا عــظيم الرجـــاء تحت بابك  

عـــبد يطلــــبك يا بالجــــــود راجـــــــيك

ماد كفّـــه ومِســهِن ثوابــــــك    

ما لعـــبد سوى فضـلك وجودك ورجواك

وانت تسمــع دعـا من دعا بك  

لا تخـــــيب دعـــــا مسكـــــين رَاجــــيك

قـــــام بالباب خايــــف عذابك    

ما معه شي عمل في يوم يُحشر ويـــلقاك[4]

لكن أكثر ما تناوله الحداد في قصائده هو الغزل، وقد غنى له مطربون مشهورون؛ مثل أبوبكر سالم بلفقيه. وليس هذا الفن من الشعر بغريب على شعراء الصوفية؛ إذ لا توجد كلمة شغلت الصوفية مثل الحب، كما يقول صاحب كتاب «التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»، والذي يقول أيضاً إن التصوف لا يصلح إلا بفضل الحب؛ فالحب هو الأول والآخر في حياة أولئك الناس.[5]

الشاعر حداد الكاف- موقع “ديسكوقس” وبالإضافة إلى الحب، فقد لقيت الموسيقى والغناء اهتماماً بالغاً من قِبل العديد من المتصوفين، الذين نظروا إلى هذا الفن نظرة فلسفية وتميزوا في إتقانها؛ وفي ذلك يقول الشاعر الحداد، والذي تعلق كثيراً بالموسيقى والعزف: 

شل صـوتك واحكم المغنى 

واحتكم للدان ولحونـــه

يومنــا عـــاشق ولي معنى 

فِنِّد الصوت لي ما زان

من زمن شف للغناء مبنى 

عاد له نغمات موزونة

من يحـــب الـــدان يتغنـى 

له قواعــد وله ميـــزان

وربما يتحدث الصوفي عن الحب إشارةً إلى التعبير عن حبه الإلهي؛ إذ كثيراً ما يلجأ الصوفي في التعبير عن حبه الإلهي إلى لغة الرمز والإشارة، ولعل لهذه الرمزية تأثيراً أكبر في السامعين؛ لأنها تمس القلب مساً مباشرة[1]، لذلك ستجد الشاعر الصوفي ربما يتحدث عن الحب والمغاني والأطلال وليلى والوصال والشوق والعناق والفراق.. وغير ذلك من الغزل. ومثال ذلك، نذكر أبياتاً للإمام والشاعر الحضرمي عبدالله الحداد، المولود سنة 1044 للهجرة، والذي اصطبغ شِعره بالصوفية: 

عسى من بلانا بالبعاد يجود 

وعل لييلات اللقـــاء تعــــود

وتســـعد بعـــد البعــد غـادة 

موردة هيفـــا القـــوام خـرود

وتبرد حراً بالفؤاد ولـــوعة 

لها تحت أحناء الضلوع وقود

لا شك أن الإنسان ابن بيئته، كما يقول ابن خلدون، كما أن الشعر صدى يطلب من الظل الرقص كما يقول الشاعر الأمريكي كارل ساندبيرغ؛ لذلك فلا غرابة أن يكون لبيئة حضرموت، ذات التقاليد الدينية الإسلامية الراسخة، تأثير كبير على شعرائها، كما أن للصوفية المنتشرة بقوة في بعض مناطق حضرموت أثراً بالغاً على كثير من الشعراء وأدبائها، بما يحمله هذا النهج من عاطفة وسمت وروحانية؛ فالشعر، كما يراه الكثير من الشعراء، هو تدفق للمشاعر القوية الذي تثيره العاطفة والسكون، كما أن الكلمات غالباً ما تخفي وراءها التجارب العظيمة.

♦باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج   المراجع:   [1] كتاب: «المورد الصافي، ديوان المعلم باحفي»: ص18. عبدالله أحمد باحفي.

[2] كتاب: «التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق». زكي مبارك.

[3] كتاب: «الصوفية: نشأتها وتاريخها». نايل جرين. ص32.

[4] كتاب: «ديوان حداد بن حسن الكاف». ج1ص301.

[5] كتاب: «التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق». ص563.