تتواصل سياسة الشدّ والجذب بين واشنطن وطهران في ما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني، فالولايات المتحدة التي انسحبت أحاديا من الاتفاق في عهد رئيسها السابق دونالد ترامب، دفعت إيران إلى التراجع تدريجيا عن تنفيذ غالبية التزاماتها الأساسية بموجبه.
وتسير إدارة الرئيس الحالي جو بايدن بخطوات وئيدة عبر حقل ألغام زرعها سلفه دونالد ترامب، وذلك في إطار بحثها عن طريق يعيدها إلى الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015.
وتعتبر طهران أن الخلافات ما زالت قائمة مع الولايات المتحدة الأميركية في المباحثات الجارية لإنقاذ اتفاق عام 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني، بحسب ما أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية الاثنين.
ويوضح حصر أجرته رويترز لقرارات وزارة الخزانة الأميركية أن هذه الألغام ليست سوى عقوبات فرضها ترامب على أكثر من 700 جهة وفرد، بعد انسحابه من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات التي رفعت بمقتضاه على إيران.
ومن هذه الألغام القائمة السوداء التي أدرج فيها ترامب حوالي 24 مؤسسة حيوية في الاقتصاد الإيراني ومنها البنك المركزي وشركة النفط الوطنية، مستغلا قوانين أميركية ترمي إلى معاقبة أي أطراف أجنبية على دعم الإرهاب أو نشر السلاح.
ويعد رفع الكثير من هذه العقوبات أمرا حتميا إذا كان لإيران أن تصدر نفطها، وهو ما سيمثل أكبر استفادة تحصل عليها طهران من الالتزام بالاتفاق النووي وتقييد برنامجها النووي.
ويأمل الدبلوماسيون الذين يتفاوضون في فيينا بوضع خارطة طريق من شأنها أن تؤدي إلى رفع واشنطن للعقوبات المفروضة على إيران، وإعادة فرض طهران لقيود على برنامجها النووي.
لكن إسقاط هذه العقوبات من شأنه أن يجعل الرئيس الديمقراطي جو بايدن عرضة لاتهامات بالتساهل مع الإرهاب، وهو ثمن سياسي ربما لا يتمكن من تفاديه إذا أصبح الاتفاق النووي ساري المفعول من جديد.
وأثار هذا الاحتمال بالفعل انتقادات شديدة من الجمهوريين، فقد قال مايك بومبيو وزير الخارجية السابق في إدارة ترامب الشهر الماضي، خلال الترويج لتشريع من شأنه أن يجعل من الصعب على بايدن رفع العقوبات السارية على إيران، "هذا غير أخلاقي".
ووصف جون سميث مدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة من 2015 إلى 2018، موجة العقوبات التي فرضها ترامب على إيران بأنها "غير مسبوقة من حيث المدى في التاريخ الأميركي الحديث".
وقال سميث الشريك الآن في شركة موريسون آند فورستر للاستشارات القانونية، إن استهداف المؤسسات الإيرانية لدعمها للإرهاب أو بسبب صلات تربطها بالحرس الثوري الإسلامي، جعل إحياء الاتفاق النووي أصعب كثيرا.
وتابع "إضافة الإرهاب العالمي والحرس الثوري وانتهاكات حقوق الإنسان إلى أي قائمة تجعل رفع تلك الأسماء من القائمة شديد الصعوبة سياسيا بدرجة لا تصدق. بإمكانك أن تفعل ذلك، لكن رد الفعل الذي قد تواجهه سيكون أكبر كثيرا".
وقال مسؤول أميركي إن حصر رويترز للعقوبات التي فرضها ترامب قريب من الحصر الذي أجرته إدارة بايدن، رغم أن اختلاف التقديرات في ما يجب إدراجه قد يؤدي إلى اختلاف العدد الإجمالي قليلا.
مشروعية أم اختلاق؟
كان فرض العقوبات الأميركية من جديد وبالا على الاقتصاد الإيراني الذي انكمش ستة في المئة في 2018 و6.8 في المئة في 2019، وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي.
وكان ترامب الجمهوري قد انسحب من الاتفاق في 2018 بدعوى أنه يتيح لإيران تخفيف العقوبات بدرجة كبيرة مقابل قيود نووية غير كافية، وفرض حملة "الضغوط القصوى" في محاولة فاشلة لإرغام طهران على قبول قيود أكثر صرامة على برنامجها النووي.
وقال أيضا إن الاتفاق أخفق في الحد من دعم إيران للإرهاب ودعم وكلائها الإقليميين في سوريا والعراق ولبنان والسعي لتصنيع صواريخ باليستية.
ويريد بايدن إعادة العمل بالقيود النووية الواردة في الاتفاق وتمديدها إن أمكن، وفي الوقت نفسه التصدي لما وصفه بأنشطة إيرانية أخرى مزعزعة للاستقرار.
وقد بدأ مسؤولون من الولايات المتحدة وإيران مباحثات غير مباشرة في فيينا، سعيا للتوصل إلى ترتيبات لاستئناف الالتزام بالاتفاق الذي بدأت إيران تخالف بنوده في 2019، ردا على قرار ترامب الانسحاب منه.
وبمقتضى الاتفاق قلصت إيران برنامجها النووي بما يقلل من قدرتها على تطوير القنبلة النووية، رغم أن طهران تنفي أنها تطمح لذلك، مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
ويتنقل دبلوماسيون أوروبيون بين الوفدين الأميركي والإيراني لأن طهران ترفض إجراء مباحثات مباشرة. ويحاول المسؤولون التوصل إلى اتفاق بحلول 21 مايو، غير أنه لم يتم تذليل عوائق رئيسية حتى الآن.
ومن هذه العوائق كيفية التصرف في العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني في 2012 لمنع التصرف في أصوله بموجب تشريع أميركي. وكانت تلك العقوبات قد رُفعت بمقتضى الاتفاق النووي واستؤنف العمل بها عندما انسحب ترامب من الاتفاق.
وفي سبتمبر 2019 ذهب ترامب إلى مدى أبعد بإدراج البنك المركزي في قائمة سوداء واتهامه بتقديم دعم مالي لجماعات إرهابية، وهو ما منع الأطراف الأجنبية فعليا من إبرام أي تعاملات معه.
كما استهدف ترامب قطاعات أخرى من البنية التحتية النفطية في إيران بتهمة دعم الإرهاب، بما في ذلك شركة النفط الوطنية الإيرانية والشركة الوطنية الإيرانية للناقلات والشركة الوطنية للبتروكيماويات.
وإذا كان لإيران أن تبيع نفطها في الخارج، فإن المحامين المتخصصين في العقوبات يقولون إن من الضروري تخفيف أعباء العقوبات على هذه الشركات، وإلا فإنها ستظل مصدر قلق للشركات الأجنبية. والشركات الأميركية ممنوعة بالفعل من التعامل مع هذه الشركات بموجب عقوبات مختلفة.
وفيما ينذر بهجوم متوقع من الجمهوريين قال إليوت أبرامز، آخر مبعوث خاص لإيران في إدارة ترامب، إن العقوبات فُرضت لأسباب مشروعة.
وأضاف "هذه التوصيفات كانت كافية ومبررة من الناحيتين القانونية والأخلاقية. فهي لم تُطلق من فراغ".
التركيز على البنك المركزي
قال مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأميركية إن إدارة بايدن لا تعتزم الطعن في "الأساس الاستدلالي" الذي فرضت إدارة ترامب العقوبات على أساسه.
وهذا معناه في واقع الأمر أنها لا تجادل بأن هذه الكيانات لم تقدم دعما للإرهاب.
لكن إدارة بايدن خلصت على حد قول المسؤول إلى أن من مصلحة الأمن القومي الأميركي العودة إلى الاتفاق النووي بما يبرر رفع العقوبات.
ومما عقّد الأمر أيضا قرار ترامب في أبريل 2019 بإدراج الحرس الثوري وفيلق القدس فرع عملياته الخارجية شبه العسكرية والاستخبارات باعتباره تنظيما إرهابيا أجنبيا.
وكانت تلك أول مرة تطلق فيها الولايات المتحدة رسميا وصف جماعة إرهابية على مؤسسة عسكرية تابعة لدولة أخرى.
وفي سبتمبر 2019 استخدم مكتب مراقبة الأصول الأجنبية صلاحيات مكافحة الإرهاب في استهداف البنك المركزي الإيراني واتهمه بتوفير مليارات الدولارات للحرس الثوري وفيلق القدس وجماعة حزب الله اللبنانية، التي تعتبرها واشنطن منذ فترة طويلة جماعة إرهابية.
وقال أبرامز "ما أجده مستنكرا بصفة خاصة هو أي خطوة تغير وضع العقوبات على الحرس الثوري لنشاطات إرهابية لأن الحرس الثوري ينخرط في أنشطة إرهابية. هذه مسألة واضحة".
لكن لا حاجة لإدارة بايدن إلى نزع صفة التنظيم الإرهابي عن الحرس الثوري من أجل رفع العقوبات المفروضة على البنك المركزي.
وقال مسؤولون أميركيون سابقون إن بإمكان وزير الخزانة إلغاء أي عقوبات مفروضة على البنك المركزي، بموجب الأوامر التنفيذية الأميركية التي تتيح لرئيس الدولة القدرة على فرضها أو إلغائها حسبما يتراءى له.
وسبق أن قالت وزارة الخارجية دون أن تذكر أي تفاصيل إنها لن ترفع تلك العقوبات "غير المتوافقة" مع الاتفاق النووي إلا إذا استأنفت طهران الالتزام بالاتفاق.
وقال هنري روم المحلل المختص بالشأن الإيراني لدى مجموعة أوراسيا "الانتقادات السياسية ستكون بصراحة في غاية الشدة. فأي شيء له صلة بكلمة الإرهاب في هذه القضية سيكون موضوعا جاهزا للحديث فيه عند من يعارضون العودة" إلى الاتفاق النووي.
وأضاف "التحدي السياسي هنا هو القول إن 'التصنيفات ربما تكون مشروعة، لكن لدينا مصالح أخرى في السياسة الخارجية تملي مع ذلك رفعها'. وهذه مهمة شاقة لكنها مهمة سيتعين عليهم إنجازها".