أظهر تراجع جماهيرية بعض البرامج في فضائيات مصرية إثر اختفاء أحد مذيعيها أو مذيعاتها لأسباب مختلفة، أن المعايير الحاكمة لعلاقة المشاهدين بالمنابر التلفزيونية تأتي في مقدمتها شخصية النجم الذي يخاطب الناس على الشاشة ويقوم بمهمة توصيل الرسالة والتميز في تناول أي قضية أو موضوع.
وتزداد شعبية بعض البرامج لمجرد استبدال مقدميها والاستعانة بآخرين، لكن ثمة مؤشرات وشواهد أظهرت العكس، فرغم أن السياسة التحريرية لكثير من الوسائل الإعلامية ثابتة ولا تتغير بتبدل الوجوه، غير أن شخصية الإعلامي تظل الفيصل في ارتفاع أو انخفاض نسب المشاهدة والمداومة على متابعة البرنامج أو مقاطعته.
وفجأة ودون مقدمات وجد المشاهد المصري نفسه أمام إعلاميين من الفئات الشابة، جرى الاعتماد عليهم لتقديم برامج جماهيرية شهيرة بعد غياب نجوم الصف الأول فيها لظروف مرضية مثل وائل الإبراشي مذيع البرنامج الحواري الرئيسي على التلفزيون المصري، وإيمان الحصري مقدمة البرنامج الأهم على فضائية “دي.إم.سي”، ولظروف غير معلومة مثل أسامة كمال الذي رحل عن قناة “المحور” أخيرا.
ولم تعد جماهيرية هذه النوعية من البرامج قوية ومؤثرة كما كانت، فلم يستطع المذيعون الذين ظهروا على الشاشة بعد غياب الوجوه التي تصنف من الصفوف الأولى ملء الفراغ الحاصل، في حين أن السياسة التحريرية لم تتغير، وتتم مناقشة قضايا شبيهة بذات السقف المحدد لكل برنامج، وهو ما ظهر في عزوف شريحة كبيرة عن مشاهدة البرامج التي اعتادوا عليها.
وقبل ثلاثة أعوام، كانت هناك خارطة برامجية جرى التخطيط للتوسع فيها على الشاشات المصرية، تقوم على صناعة جيل جديد من الإعلاميين، لتقديم برامج هامة وذات شعبية مع نجوم الصفوف الأولى، على طريقة وجود مقدم شاب إلى جوار الإعلامي المشهور الذي تربطه علاقة قوية مع الناس ويعرفون تاريخه جيدا.
وانتهت سريعا هذه المحاولة أمام رغبة بعض مقدمي البرامج من أصحاب الشعبية في احتكار الكلمة وعدم منح الفرصة للشباب في إظهار قدراتهم، وبدأت تعود الصورة إلى ما كانت عليه في الماضي، فجرى تغييب مذيعي الصفين الثاني والثالث والبقاء على “الكبار” فقط، وتعطلت مسيرة إعداد وجوه جديدة.
وترتبت على التراخي في إعداد صفوف تالية من المذيعين مواجهة بعض الشاشات المصرية لأزمة حقيقية، ظهرت ملامحها في ندرة المذيعين الذين يمكن التعويل عليهم لسد الفراغ الذي تركه بعض النجوم القدامى من أصحاب الشعبية والحضور.
وكانت بعض الوجوه الشهيرة في الإعلام المصري تعول على أن هيمنتها على الشاشة ستحول دون الإقصاء، باعتبار أن البديل غير جاهز، وهي القاعدة التي ثبتت ملامحها مع غياب بعضهم بشكل طارئ، فلم ينجح البدلاء في صناعة حالة استثنائية أو جماهيرية واسعة، أو حتى ينجحوا في إبقاء علاقة الناس مع البرامج قوية.
واعتادت شريحة من الإعلاميين المصنفين ضمن الصفوف الأولى صناعة جماهيريتهم بالدخول في معارك مع مسؤولين كبار، وفتح ملفات شائكة تحتاج إلى شجاعة وخبرة وحنكة في طريقة الطرح والمعالجة مع الاهتمام بانتقاء الموضوعات المثيرة بغض النظر عن أهميتها، مثل مناقشة قضايا تشغل بال الناس.
ولأن فئة الشباب من مقدمي البرامج لا تملك الشجاعة حفاظا على المكانة التي وصلوا إليها، أو خوض معارك مع أيّ مسؤول حكومي، مع إبعاد أنفسهم عن مناقشة قضايا مثيرة لتجنب الصدام مع دوائر مهيمنة على المشهد، بدأ الناس يشعرون بغياب حضور وتأثير هؤلاء، مع تمسك “البدلاء” بالحرص على البقاء في مأمن من الإقصاء.
وقال حسن عماد مكاوي عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة سابقا، إنه من الطبيعي في أيّ بلد بالعالم أن تكون السياسة التحريرية العنصر الأهم في جماهيرية البرامج التلفزيونية، وعدم تبدلها بتغير المقدم، لكن المشاهد المصري له طبيعة خاصة، حيث يرتبط بمن يجلس أمام الشاشة، ويذهب وراءه مهما انتقل من قناة إلى أخرى.
وأضاف لـ”العرب” أن عاطفة الجمهور صارت المتحكم الأول في شعبية البرنامج، فالمذيع إذا نجح في خلخلة الجمود الذي يعتري علاقته بالمشاهد، فالناس لن تشعر بتغيير هوية الشخصية التي تتحدث إليها، سواء أكانت من النجوم أم لا، وهو ما يرتبط بالحضور والكاريزما وفهم احتياجات الناس من البرنامج، لا مجرد ملء وقت الهواء.
ولفت إلى أن وسائل الإعلام في مصر تعتمد على وجوه بعينها لمخاطبة الناس، بسبب التأخر في خلق أجيال قادرة على القيام بنفس المهمة، ما ترتب عليه إمكانية سقوط قنوات لمجرد رحيل المذيع النجم عنها، بينما العمل الإعلامي المؤسسي لا يتأثر فيه البرنامج بهوية المتحدث بقدر ما يكرس استمرار نفس السياسة والأسلوب.
وتتمثل مشكلة بعض الوجوه الإعلامية التي تظهر فجأة على الجمهور لتعويض غياب نجم البرنامج الذي تعوّد عليه الناس، أن الخطاب ينحصر في الترويج للرؤى الرسمية عند معالجة القضايا الهامة، والفارق هنا يكون في الحنكة، لأن مذيعي الصفوف الأولى يقومون بذلك لكن بطريقة دبلوماسية تُرضي الحكومة والمتلقي معا.
وهناك شريحة من النجوم كانت تخترق الخطوط الحمراء عند مناقشة ملفات بعينها، مثل انتقاد مسؤول ما بطريقة ذكية، وهي السمة الغائبة عن الفئة الصاعدة حديثا خشية الإطاحة بهم مبكرا. ومهما كانت السياسة التحريرية تسمح لهم بالنقد فهم يتجنبون ذلك لعدم إدراكهم لما يحدث خلف الكواليس وفي غرف دوائر صناعة القرار.
ويشير خبراء إلى أن السياسة التحريرية وحدها لا يمكن أن تصنع نجما إعلاميا، فالالتزام الحرفي بها يقود إلى عزوف الناس عن المشاهدة، بل إن الخروج عن المألوف أحيانا، ولو بنسبة بسيطة، كفيل باكتساب المزيد من الشعبية، وهذا يرتبط بالخبرات والتراكمات والحضور الطاغي حتى لا يتحول المذيع إلى مجرد آلة يحركها مالك القناة أو المتحكم في سياستها.
وأكد محمد المرسي أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أن شهرة الإعلامي تتحكم في جماهيرية البرنامج من عدمه، وهذا يتطلب ذكاء إعلاميا وحضورا قويا وقدرة على إقناع الناس، لكن انتقاء الموضوعات محل النقاش يظل عاملا أكثر أهمية، فإذا لم تكن تمس المشاهد وتدخل مباشرة في إطار اهتمامه الأساسي يصعب تحقيق الشعبية.
وأوضح لـ”العرب” أن المعالجة الإعلامية للقضايا لها عامل السحر في نجومية البرنامج أو تراجع شعبيته، وهذا مرتبط بهامش الحرية المتاح للإعلامي، ومع تراجع الحريات يحتاج مقدم أيّ برنامج لجهد مضاعف لإثبات نفسه وإقناع الناس بقدراته وحضوره، وهنا قد يخرج عن المهنية بمحاولة ركوب “الترند” عبر الإثارة.
وتخطأ الكثير من القنوات في اعتمادها على البرنامج الواحد والنجم الواحد الذي يضعها في منافسة مع باقي المنابر الإعلامية، وغالبا ما يكون صاحب شعبية، وعندما تفقده لأي سبب تواجه أزمة، لأن الجمهور مرتبط بالشخص وليس الكيان، ما يعني أن الإعلام المصري أمامه طريق طويل ليتخلص من هيمنة الحرس القديم.