يقدّم المخرج ديفيد أويلو في فيلم “رجل الماء” فتى مغامرا، وهو غانر (الممثل لوني تشافيز) الذي يخوض مغامرته الخاصة متنقلا بين بيئات متعددة، ليجسّد موهبة مبكرة عرف بها منذ بواكير طفولته، مستعرضا في هذا الفيلم أداء ناضجا ومتميزا، وليقود الأحداث بتمكّن ملفت للنظر.
غانر يشاهد أمه ماري (الممثلة روساريو داوسون) وهي تذوي أمامه بسبب إصابتها بسرطان الدم ومن دون أن تخبره بذلك، لكن قدراته الفائقة في الاكتشاف هي التي أتاحت له كشف السر، وهو ما يدفعه كالمعتاد إلى اللجوء إلى المكتبة للبحث في غوامض هذا المرض الخبيث، ليتوصّل إلى نتيجة قاسية أن لا شفاء منه، لكنه يشعر أن مسؤوليته تجاه أمه أن يعثر لها على دواء يشفيها.
لم يكن رجل الماء إلاّ نقطة ضوء في الظلام والخيال المسرف يدفعه كما يدفع فتيانا غيره إلى تخيّل شكل رجل يعيش في الماء ويمتلك حجرا سحريا من يمسكه سوف يجدّد فيه الحياة بل إنه يحول بينه وبين الموت، تلك المساحة الخيالية سوف يتحرّك عليها غانر، لاسيما وهو يُشاهد ثلة ممّن هم في سنّه يصغون إلى قصص ترويها جو (الممثلة آميا ميلر) في مقابل بعض المال، وكلها تتعلّق برجل الماء.
في المقابل سوف يعثر على غانر ما يؤكّد له وجود رجل الماء بحق وأنه ليس أسطورة ولا كذبة، إنه يعثر على تعليقة على كتاب قديم كان كتبها رجل كهل غريب الأطوار أكّد لغانر حقيقة وجود رجل الماء وروى له قصته، وأنه هو وقومه كانوا قد تعرّضوا لفيضان خسروا فيه حياتهم، لكنه الوحيد الذي خرج من الغرق ناجيا، وذلك بفضل الحجر السحري الذي توصّل إليه.
الفيلم يستعرض مغامرة متخيلة لفتى يبحث عن رجل الماء الذي بإمكانه إنقاذ والدته المريضة بفضل حجر الشفاء الذي بحوزته
ومن هنا سوف تبدأ رحلة الاكتشاف وتوافق جو أن ترافق غانر في الرحلة، مجرّد ذلك القرار كان تحوّلا دراميا مهما وحبكة ثانوية دفعت الأحداث إلى الأمام وجعلت هدف غانر يقترب وهو يخوض مع جو سلسلة من الغرائب والمفاجآت غير المتوقّعة، وهنا يجري تكريس شخصيتين تتكاملان أداء، ومن خلال رحلتهما تتكشّف طباع كل منهما بل إن تلك الرحلة سوف تحدث تحوّلا دراميا حادا في حياة جو التي تعترف أن رجل الماء ليست إلاّ قصة سمعتها، وأنها كانت تلقيها على مسامع الأطفال من أجل المال وأن الجرح الذي في رقبتها هو من ضرب والدها لها وليس من رجل الماء.
لا شك أن هذا التحوّل الدرامي كان كافيا لقتل مساحة الأمل والطموح بالنسبة إلى غانر، لاسيما وأن جو تنصحه بالعودة إلى والدته بدل تلك المغامرة الفاشلة، لكن في المقابل يستطيع خيال غانر أن يذهب به بعيدا، فيدخل إلى كوخ رجل الماء ويتعرّف عليه عن قرب ويطلب منه ذلك الحجر لإنقاذ أمه، ويستغرق في تلك المساحة الحلمية في انسجام مؤثّر بين قوى الطبيعة وبين الذات المحاصرة بالخوف والمجهول وبين كائن في أيامه الأخيرة.
تجسّم تلك التراجيديا غير المعلنة سيرة مختلفة تمتلك جاذبية خاصة يتمّ نسجها بعناية تتعلق بذلك الحنين الجارف بين الأم وابنها الذي صار في عداد المفقودين في غابة تلتهمها النيران، ومع الأب الجاف والجامد في علاقته مع غانر في موازاة بحث الشرطة عن الفتى المفقود، كل هذه الخطوط السردية المتشابكة سوف تعيد إنتاج علاقات اجتماعية جديدة كما سنلمس تفاعلا واقعيا عميقا من بعض الشخصيات الإيجابية التي تم بناؤها بعناية من قبل كاتبة السيناريو.
أي واقع موضوعي يحكم تلك الأزمة المتفاقمة، حقيقة غياب غانر في مقابل انقلاب شخصية جو وتحوّلها إلى منقذة له ثم وهما محاصران بالنيران، وما تلك إلاّ لحظة الحقيقة الكافية لكي يدرك الإثنان أن على الحياة أن تستمر بأي شكل كان، وأن تلك الرحلة الخيالية بحثا عن حجر الشفاء كانت كافية لكي يتم من خلالها اكتشاف ما لم تكن الشخصيات على دراية به من قبل، وحيث تمتزج في كل ذلك أسئلة الموت والحياة والذات والآخر من خلال شخصيات على الهامش كمثل جو المشرّدة في مقابل شخصية متجذّرة وعميقة هي غانر على صغر سنّه.
وإذا توسعنا أكثر مع غانر، فإن عنصرا جماليا آخر أضيف للفيلم، وذلك عبر قدراته الفائقة في الرسم وفي تجسيد ما يشاهده وما يمرّ به من أحداث وشخصيات من خلال الرسوم، وهكذا سوف يسيطر عليه سؤال الموت كحقيقة واقعة، وهو بمثابة أول الأسئلة الصادمة التي لا جواب عليها، لاسيما وهو يحضر مراسيم دفن شخص لا يعرفه.