عبدالرب السلامي
عبدالرب السلامي

سلطات الجوع الخوف

في زمن الحروب الأهلية، تنهار أهم منظومتين في البلد: الاقتصاد والأمن، وبانهيارهما يتفشى في المجتمع أسوأ آفتين: الجوع والخوف (فأَذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). 

في هذا الواقع الموبوء، تنفتح أسواق غير نظيفة لمستثمري الأزمات، فيظهر في المجتمع ثلاث فئات انتهازية، هم: "تجار الحرب" و"أمراء الحرب" و"طبول الحرب". 

 

ينتهز "تجار الحرب" حالة انهيار الاقتصاد الوطني، فيشيّدون لأنفسهم اقتصادا طفيليا قائما على: الفساد والسمسرة ونهب المال العام حيث لا مؤسسات رقابية تحاسبهم.

ويستغل "أمراء الحرب" حالة الفوضى الأمنية، ليؤسسوا ميليشيات تصنع لهم نفوذًا قائما على: بث الرعب وفرض الجبايات وتأجير القوة لوكلاء الأزمات في الداخل والخارج.

أما "طبول الحرب" فهم أبواق مأجورة تبني مجدها الإعلامي من خلال: التفنن في التطبيل للفئتين السابقتين. 

 

مع طول الأزمة، تتزاوج مصالح الفئات الثلاث، فيلتقي المال القذر مع البندقية المتوحشة والبوق المأجور، فيتولّد ما يعرف في الأدبيات السياسية بـ"سلطات الأمر الواقع"، وهو مصطلح يقصد به القوة غير القانونية البديلة عن الدولة.

 

تتعدد سلطات الأمر الواقع، وتبدأ خريطة البلاد في التفكك، حيث تنتهي حدود كل مليشيا عند تماس نفوذ الأخرى، وهكذا يصبح الشعب -الذي كان يوما ما تحت شرعية دولة واحدة- أمام عدة شرعيات متشاكسة.

 

تتطور حالة التفكك، وتبدأ كل سلطة أمر واقع في التبرير لشرعيتها باختلاق هويات ما دون الوطنية. وهنا يتجلى دور أبواق الحرب وأقلامها المأجورة في تزييف حقائق التاريخ والدين والجغرافيا لتبريره.

 

هنا تجرف الهوية بدعوى بعثها، ويُداس القانون باسم حمايته، ويُمارس الإرهاب بزعم مكافحته، وتُنتهك حقوق الإنسان تحت يافطة الدفاع عنها.

 للأسف قد ينجرف بعض الطيبين، من قليلي الوعي، خلف هذه الدعوات المضللة، كما قال تعالى (وفيكم سماعون لهم).

 

إذا طال الزمن ولم يتبلور مشروع إنقاذي يستعيد الدولة والهوية وسلطة القانون، فإن الإحباط يبدأ بالتسلل إلى نفوس المخلصين، ويبدأ الضمير العام بالتكيف مع الانحراف، ويتحول الاستثناء إلى قاعدة، ويغدو الحديث عن الدولة كأنه حديث عن أطلال حضارة مندثرة.