كان شابًّا فتيًّا، صيادًا ماهرًا في مغازلة الفتيات؛ إذا ألقى بسنارته في المحيط الهائج لم تُخْذِله. كنَّا نلقِّبه بـ"التُحَيف"، فمِشْيَته دَلعٌ، ولِباسُه غَنجٌ، ونَظْرَته لا تُخيب، وكلامه قليلٌ لا يوحي لمُحدِّثِه بأنه إزاءَ أكبرِ ساحرٍ.
كنتُ وإيَّاه في غرفةٍ واحدةٍ، ورغم ضيقِ المكانِ بأحلامِ فَتيَيْنِ في عنفوانِ شبابِهما؛ كان فارقُ التفكيرِ شاسعًا، والمسافةُ الزمنيةُ الفاصلةُ تزدادُ اتساعًا. سيطرَ عليَّ إحساسٌ بأنني وإيَّاه من أزمنةَ وأمكنةَ مختلفةٍ في كلِّ شيءٍ.
كان صديقًا وخليلاً بالمعنى الماديِّ الفيزيائيِّ، أمَّا وجدانًا وذهنيًّا فمن عالَمِ الجِنِّ والخُرافاتِ. كتومًا، غامضًا، عاطفيًّا، طيِّبًا حدَّ السذاجةِ، كريمًا حدَّ البَذخِ والإيثارِ.
قريبًا طوالَ أيامِ الدراسةِ، لكنه في الإجازةِ يتمردُ ويَزيدُ ابتعادًا، ينتقلُ إلى طورٍ لا أعرفُه، إلى كائنٍ أجهلُه تمامًا. فكلُّ مغامراتِه تشبهُ قراصنةَ البحرِ الباحثينَ عن الذهبِ في جزيرةِ الشيطانِ، هو كذلكَ؛ يُشعِرُك في أيامِ السبتِ والأحدِ بأنه القرصانُ "سيلفر".
ما مِن إنسانٍ إلا وله شفرتُه، لا أحد يبقى عصيًّا على الفهمِ أو التطويعِ. في السنةِ الدراسيةِ الأخيرةِ، بدأت تذوبُ تلك الجدرانُ الفاصلةُ، البقعُ المعتمةُ أضحت مضيئةً، ودروبُها مفتوحةٌ.
الْتَصقتُ به أكثرَ، وكلما تلاشتِ المسافةُ زادتْ معرفتي بمآثره في الحبِّ والغرامِ، كأنه الخضرُ العليمُ الخبيرُ بتفكيكِ الألغازِ، وأنا التلميذُ موسى الجاهلُ بتلك الأسرارِ والمعجزاتِ.
تخيَّلوا شخصًا تشاطرُه ساعاتَ يومِك وسَكَنَك، ثم تأتيكَ مآثرُه الغراميةُ مِن أفواهِ الآخرين؟! عرفتُ مِن أصدقائي أن رفيقي خطف قلبَ الفتاةِ الحسناءِ "يانا"، ابنةِ المارشالِ الوزيرِ العائدِ لتوِّه وعائلتِه مِن عاصمةٍ عربيةٍ.
كان سفيرًا لبلده العظيمِ هناك، وشاءَ القَدَرُ أن يكونَ جارَنا، وأن تكونَ عائلتُه ضيفةً دائمةً لدينا في جناحِها الخاصِّ، في المبنى الضخمِ الذي نسكنُه.
وكأنَّ القَدَرَ حاكَ خطَّتَه مهديًا الفتاةَ الغَنجاءَ البريئةَ إلى شباكِ صيادِنا الماهرِ.
وباتَ الوزيرُ يُشاهِدُ كلَّ صباحٍ بَهيَّةَ مَهابَتِه، وهيئتِه الأثيرةِ المُزيَّنةِ بالأوسمةِ والنِّياشينِ، دونَ حراساتٍ أو حواجزَ، أو مصفَّحاتٍ أو أسلحةٍ ثقيلةٍ تُحيطُ به. بل كان يُلَوِّحُ لنا بيدِه بتواضعٍ، ماشيًا راجلًا إلى البوابةِ الرئيسةِ حيثُ ينتظِرُه سائقُ سيارتِه.
للوهلةِ الأولى فزعتُ مِن جُرْأتِه، وتساءلتُ بقلقٍ وحيرةٍ وغيرةٍ أيضًا: "يا لِجُرْأتِك يا صاحبي! 'يانا' بنتُ وزيرِ الدفاعِ؟!" مرةً واحدةً، ودونَ إخطارٍ أو إشعارٍ أو وقتٍ كافٍ للعائلةِ كي ترتِّبَ وتستقرَّ في مسكنِها الذي انتقلتْ إليه.
فلم يتسنَّ للعائلةِ الاطِّلاعُ على عنوانِها الجديدِ في ذاتِ المبنى الذي نتربع أدوارَه الخمسةَ. بالكادِ علمنا بوجودِ عائلةِ المارشالِ في الدورِ الرابعِ، فلم يحدثْ أن شاركنا أيًّا مِن القادةِ سكنَنا.
المباني الثلاثةُ الضخمةُ في عرضِها وسِعَتِها خُصِّصَت للطلابِ الأجانبِ مِن مختلفِ الدولِ الإفريقيةِ والأسيويةِ واللاتينيةِ، وفي محاذاتِها سكنُ المجندينَ الروسِ المؤدِّينَ للخدمةِ العسكريةِ الإلزاميةِ.
لم أكن أُصدِّقُ ما يُشاعُ بين زملائِنا الكونغوليينَ والإثيوبيينَ والكوبيينَ وحتى الروس ، إلى أن رأيتُها يومَ أحدٍ تتمخطرُ معه وسطَ نظراتِ إعجابٍ وحسدٍ مِن كلِّ أولئك الجالسينَ يُمجُّونَ السجائرَ في الأمكنةِ المخصَّصةِ للتدخينِ، أو الجائلينَ في الساحةِ.
ومِن الأشياءِ التي لفتتْ انتباهي أنَّه كان يواعدُها في المدينةِ، وحينَ يقررُ الخروجَ معها يذهبُ إلى غرفةٍ مجاورةٍ يسكنُها زميلانِ لنا، فينقرُ بمؤخرةِ حذائِه نَقْرَةً أو ثلاثًا، فتردُّ عليه مِن الأسفلِ بنقراتٍ خفيفةٍ، لكنها إجابةٌ مفهومةٌ.
إشارةٌ تماثلُ رَنَّاتِ "مورس" السحريةِ، فإمَّا أن تنزلَ الفتاةُ لملاقاةِ حبيبِها في الساحةِ، أو ترمي له ورقةً مِن النافذةِ تُحدِّدُ الوقتَ والمكانَ. وهكذا أضحتْ " يانا ' سمكةً بديعةً ملونةً في شَرَكِ صيادِ القلوبِ.
في إحدى الأمسياتِ الجميلةِ الصَّادحةِ أضواءَها في الفضاءِ، أخذني إلى عالمِه الغامضِ. اكتشفتُ أنَّ لديه شقةً استأجرَها مِن سيدةٍ طيِّبةٍ. وجودُ مأوى في حيٍّ راقٍ هادئٍ كان مِن الأمورِ غيرِ المألوفةِ لنا.
المهمُّ، خضتُ مغامرة لذيذةً. للمرةِ الأولى التقيتُ بها وجهًا لوجهٍ. كان الطقسُ باردًا وفي ذروةِ كانونَ الثاني. كثبانُ الثلجِ تملأُ الطرقاتِ وشرفاتِ المنازلِ، الأشجارُ والسقوفُ القرميديةُ مغطَّاةٌ بكتلِ الثلجِ أو الصقيعِ المتكوِّنِ مِن تيّارِ الهواءِ. الأسنانُ تصطكُّ مِن قسوةِ البردِ.
وعندما أقبلتْ سبقَها عطرُها، كان زفيرُها دِفئًا نافثًا إلى أعماقِنا. عناقُها ساخنٌ أزاحَ عنَّا جَفْوَةَ البردِ الشديدِ. وبمجرَّدِ تصافحِنا، شرعتْ في نزعِ معطفِها، ثمَّ جواربِ يديها وقُلَنْسوةِ رأسِها. وهي تتحررُ مِن ملابسِها الشتويةِ، لَعَيْنٍ زائغةٍ، بدا جسدُها كفاكهةٍ لذيذةٍ شهيةٍ في عزِّ الصيفِ.
أخذتْ تحدِّثُنا بغنجٍ وجَذَلٍ طفوليٍّ عن يومِها في المدرسةِ وفي صالةِ تعلُّمِ رياضةِ الجمبازِ. راحتْ ترقصُ بخفَّةٍ ورَشاقةٍ، كأنها فراشةٌ بأجنحةٍ بلا عظامٍ. حاولنا مجاراتَها دونَ فائدةٍ.
وعندما يئستْ مِنَّا، بقيتْ وحدَها تصعدُ، وتهبطُ، وتدورُ، وتنقشُ بقدميها رسومًا فنيةً أظنُّ أنها ما زالتْ مكتوبةً عالقةً في قاعِ الغرفةِ.
وخلالَ لحظاتٍ أذابتْ كثيرًا مِن الهواجسِ والدهشةِ. أحسستُ بطيبةٍ وثقةٍ لا حدودَ لهما، وبِتَّواضعٍ وخِفَّةِ دمٍ تنسابُ إلى الروحِ.
فكلُّ ما في الفتاةِ مدعاةُ دهشةٍ وفِتنةٍ. لم تذكرْ أباها ولا منصبَه ولو بكلمةٍ واحدةٍ. إنها مجرَّدُ فتاةٍ عاديةٍ مِن جملةِ فتياتٍ جميلاتٍ في مدينةٍ يسكنُها الجمالُ والمرحُ.
قبلَ مجيئِها كنَّا قد ابتعنا أرنبًا مِن السوق ، وجلبنا معنا بهاراتِ طبخةِ المرقِ، وكذا الخبزَ والفاكهةَ .
كان الجوعُ يقرصُ معدتي بشدَّةٍ، فتركتُ الصيادَ مع سمكتِه، وتوجَّهتُ إلى المطبخِ حيثُ تنبعثُ رائحةُ المرقِ.
فتحتُ القِدْرَ، أخذتُ قليلاً مِن لحمِ الأرنبِ، ورَشَفتُ الحساء . جلستُ على الطاولةِ أتناولُ كلَّ ما حولي، ومِن شدَّةِ الجوعِ أكلتُ الخبزَ، وما في الصحنِ بشراهةٍ لم أعهدْها في حياتي.
انتظرتُ صوتًا مِن الحبيبينِ، لكنهما لبِثا وقتًا. طاوَعتُ نفسي، فزدتُ اغترافًا مِن الماعونِ، وكلما تأخَّرَ صريرُ بابِ الغرفةِ ازدردتُ شيئًا مِن الوليمةِ.
في النهايةِ، أقبلَ صديقي ليحملَ الوليمةَ. ساعدتُه في حملِ الفاكهةِ والعصيرِ . افترشنا أرضيةَ الغرفةِ. صُعِقَ الحبيبانِ بما رأياه. سألني حائرًا عابسًا: "أين ذهبت الأرنبُ؟" فأجبته: "قفزت مِن القِدْرِ وهربت !"
ضحكَ وضحكتْ "يانا"، وضحكنا ثلاثتنا بهستيريا. وأثناءَ عودتِنا في منتصفِ الليلِ، أيقظ ضحكُنا النائمينَ. وطوالَ طريقِنا ماشينَ على الأقدامِ مِن المحطةِ وحتى السكنِ، لم تتوقَّفِ الفتاةُ عن الضحكِ.
ظلَّت تلهجُ هازئةً: "سمكةٌ غفت بأمانٍ بحضنِ صيادِها، وأرنبٌ نَطَّتْ إلى بطنِ حوتٍ!" وهنا ، أطلقتْ ضحكتَها دونما توقُّفٍ.
وبقيتْ "يانا" على هذا الحالِ تضحكُ وتضحكُ، حتى إننا حين غادرْنا عائدينَ إلى الوطنِ لم تُذْرِفْ دمعةً، وودَّعتْنا بذاتِ الكلماتِ والضحكةِ اللذيذةِ...
محمد علي محسن