على عكس بينوكيو، لا يعطي الكذابون عادة إشارات تدل على كذبهم، بل نجح بعضهم في خداع أجهزة كشف الكذب، حتى أسس مكتب التحقيقات الفدرالي "إف بي آي" (FBI) قسم "علم النفس الجنائي" في سبعينيات القرن الماضي.
وظهرت بعض حيل هذا "الجهاز الأمني" لكشف الكذب في مسلسل "نتفليكس" (Netflix) الجديد "صائد العقول" (Mind hunter)، وتتابعت بعده أبحاث سلوكية ونفسية ساعدت على كشف المتهمين من جلسه الاستجواب الأولى. تشتيت الانتباه اعتمد أساتذة من قسم علم النفس في جامعة بورتسموث على فرضية استهلاك الكاذب طاقة معرفية أكبر من قول الحقيقة، في تجربة استمرت 15 عاما، لكشف طرق فضح الأكاذيب خلال الاستجوابات، ونشروا نتائجها في "المجلة الدولية لعلم النفس وتحليل السلوك" الشهر الماضي.
وأظهرت نتائج التجربة إمكانية كشف الكذب عن طريق تشتيت انتباه الكاذب، وطلب قيامه بمهمة ثانوية إلى جانب استكمال روايته. فقد طلب الباحثون من المشتركين الموكلين بالكذب أن يكونوا مقنعين، وأغروهم بجوائز قيّمة. وخلال المقابلة، عرضوا عليهم قراءة 7 أرقام مدونة على ورقة ثم حفظها واسترجاعها وإلا تضيع الجائزة، ويكون عليهم تدوين آرائهم بعد المقابلة. بدت قصص الكاذبين أقل منطقية فور محاولاتهم حفظ الأرقام، وحدد الباحثون شرط نجاح التجربة في إقناع الكاذب بضرورة قيامه بالمهمة الثانوية (عامل التشتيت)، أو عن طريق صرف انتباهه بمهمة لا يمكن رفضها، مثل: قيادة السيارة أو حمل شيء ما أو تناول الطعام أو غسيل الأطباق. تشنجات عضلية
نشرت مجلة "السلوك غير اللفظي" نتائج دراسة أجراها طلبة الدراسات العليا بقسم الاتصالات بجامعة بوفالو، وأشرف عليها عالم أبحاث في إدارة أمن النقل الأميركية عام 2011.
قسم الباحثون المشاركين في مجموعتين، الأولى تكذب، والأخرى تقول الحقيقة، وفحصوا ما إذا كان بإمكان المشتركين منع تعبيرات وجوههم، مثل رفع وضم الحاجبين أو الابتسام حتى بعدما طلب منهم الباحثون منعها. أظهر المشاركون في مجموعة الحقيقة قدرة فائقة على التحكم في تعبيرات وجوههم، في حين أفاد معظم المشاركين في مجموعة "الكاذبين" بأنهم نجحوا في السيطرة على تعبيراتهم، إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك بشكل كامل، وظهرت تشنجات عضلية غير مفهومة وسريعة على الجبين والشفتين، وأكد الباحثون أن التحكم في الجزء العلوي من الوجه أصعب، وتعد تشنجاته علامة شائعة على الخداع.
تعبيرات غير مناسبة وجاءت أول دراسة شاملة لأسرار الوجه البشري بعد حادث قتل مايكل وايت زوجتَه الحامل، وخداعه الشرطة والجمهور العام، وادعاءه اختفاءها لأسابيع بقي فيها يبكي أمام عدسات المصورين. وقام فريق مختبر علم النفس الشرعي بجامعة "دالهوزي" بتحليل ملامح وجه الزوج المكلوم، ووجدوا تعبيرات بالغضب والاشمئزاز على وجهه في الوقت الذي يطلب فيه المساعدة للبحث عن زوجته. كرر الفريق التجربة على أكثر من 60 مقطع فيديو لمثل تلك الجرائم من كندا والولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ثم طبقوا فرضيتهم على عدد من المشاركين في الدراسة، وظهرت بعض التعبيرات غير المناسبة مثل الابتسام أمام صور مثيرة للاشمئزاز أو رمش العين أمام صورة طفل يبكي. ولاحظ الباحثون أن معظم المشاعر غير المتسقة تظهر عادة إما في الجزء العلوي وإما في الجزء السفلي من الوجه فقط، وأشار الباحثون إلى ضرورة سؤال الشخص عن سبب الشعور الذي بدا على وجهه. الأسئلة المفتوحة وذكرت "جمعية العلوم النفسية" أن الباحثين من جامعة كولومبيا اقترحوا بعض الأساليب اللفظية لكشف الكذب، مدعومة بتجارب بين المجرمين والمحققين. تتمثل الحيلة الأولى لكشف الكذب في مطالبة المشتبه فيه بالإدلاء ببيانات مفصلة عن نشاطاته من خلال الأسئلة المفتوحة، مثل "ماذا فعلت بالأمس بين الساعة الرابعة والخامسة مساء؟". يشجع ذلك الأسلوب المشتبه فيه على التحدث، مما يسمح بتحديد التناقضات بين الإجابة والأدلة المتاحة.
من المتوقع أن يجد الكاذب تلك المهمة صعبة، وغالبا ما سيقدم تفاصيل أقل عن الوقت والموقع، وسيتحدث ببطء، ويقع في أخطاء لغوية وسط كثير من التردد. لكن الحيلة الأقوى بلا منازع كانت فرض عبء عليه من خلال مطالبته بتذكر الأحداث بشكل عكسي، وأثبتت تلك الحيلة فعاليتها في قاعات المحكمة واستجوابات الشرطة. أسئلة غير متوقعة ويتوقع الكاذبون الأسئلة التي تهدف للتحقق من صحة أقوالهم، وسيعدون تفاصيل ملفقة لدعم كذبهم، وتلك الأكاذيب المحضرة يصعب تمييزها عن الحقيقة أكثر من الكذب وليد اللحظة، لذا قد تساعد الأسئلة غير المتوقعة على كشف الكاذب المحترف. وفي عام 2009، كشف فريق من جامعة بورتسموث عن تجربة أجروا فيها مقابلات فردية مع كاذبين ورواة حقيقيين حول تناول الغداء في مطعم محدد. وطرح الباحثون أسئلة افتتاحية نموذجية توقعها الكاذبون، تليها أسئلة لم يتوقعوها بشأن أصناف الطعام، وكيفية وصولهم للعنوان والطابق الذي يقع فيه المطعم، ووصف المكان. وأكدت التجربة أن طرح أسئلة غير متوقعة يتسبب في إرباك الكاذب ويظهر على الفور عجزه في حياكة قصة مناسبة في 80% من الحالات. اطرح مزيدا من الأسئلة ويتبرع الكاذب بسرد أكاذيب جديدة لدعم الكذبة الأصلية عندما يشعر بتهديد من احتمال كشفه، ليخلق طبقات من الخداع تمنع الآخرين من الوصول إلى معلومة يسعى لإخفائها؛ لذلك اقترح الباحثون في مركز العلوم الاجتماعية ببرلين إجهاد الكاذب بطرح مزيد من الأسئلة عليه. واختبر الباحثون حدود كذب الناس من خلال وضعهم في مواقف تنطوي على درجات متفاوتة من الرقابة والمساءلة، وأشاروا لتلك الحدود بـ"التكلفة النفسية للكذب"، التي يتحملها الكاذب في محاولة إخفاء كذبته. وأكدت التجربة أن المزيد من الأسئلة تدفع الكاذب لنسج مزيد من الإجابات الوهمية لإثبات صدقه، إلا أنك ستراه يسقط أمامك في بئر من الأكاذيب غير المترابطة عندما لا تكافئ "التكلفة النفسية" للكذب العائد منه."الجزيرة"