هذه أسباب خسارة روسيا للحرب

عربي ودولي
قبل سنتين I الأخبار I عربي ودولي

الحرب المطوّلة التي تدور رحاها في أوكرانيا لم تضع أوزارها بعد، لكننا نعلم الآن بالفعل - بعد مرور ستة أشهر على اشتعال فتيلها - أن روسيا ستكون الخاسرة، سواء في مواجهة جيرانها الغربيين أو في مواجهة الصين، التي صارت الآن شريكاً صغيراً لها، حسبما أفاد المحلل السياسي دومينيك مويزي في مقال له نشرته صحيفة "ليزيكو" اليومية الفرنسية بعنوان "لماذا خسرت روسيا الحرب بالفعل". وتحولت الحرب التي تمناها بوتين خاطفة في أوكرانيا، إلى حرب استنزاف. وبعد انقضاء ستة أشهر على اشتعالها، لا يبدو أن أيّاً من الفريقين في طريقه للفوز بها على الرغم من أن كفة الميزان ربما تميل قليلاً الآن لصالح كييف بفضل المساعدات الغربية. وانتهت الحرب الباردة، التي بدأت بين عامي 1945 و 1947، بتفكك الاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر(كانون الأول) 1991. وانتهت فترة ما بعد الحرب الباردة في فبراير(شباط) 2022 عندما اجتاحت روسيا أوكرانيا. وما زال من السابق لأوانه تحديد مصطلح دقيق نطلقه على الفترة التي بدأت للتو: "الحرب الباردة الجديدة"، "بوادر حرب عالمية ثالثة"، "إلغاء العولمة"، "عصر الفوضى". لكن يمكننا تعلّم الدروس الأولى منها. فهذه المقامرة العسكرية الروسية تبدو غير عقلانية تماماً (أكد لي خبير معروف في الشؤون الروسية أن "بوتين ليس غبياً")، وأشبه بمفارقة تاريخية، وغير مسؤولة قط. ففي أزمنة تغير المناخ والأوبئة، كيف يمكن للمرء أن يحلم بالتوسع أو استخدام الأسلحة للحصول على أرض؟ محاولة لفهم بوتين ربما يكون أفضل مفتاح لفهم بوتين تقاسُم بولندا بين النمسا وروسيا وبروسيا بين عامي 1770 و 1795. آنذاك قالت فيينا وسانت بطرسبرغ وبرلين في تناغم تام: "أنا موجود لأنني أتوسع". والتاريخ الدبلوماسي مفيد جدّاً للإجابة عن هذا السؤال: كيف يُفترض أن يتصرف المنتصرون تجاه المهزوم؟ هناك النموذج الذي استخدمه "مترنيخ" و"كاسيلري" في مؤتمر فيينا عام 1815، الذي أعاد تنظيم أوروبا بعد هزيمة فرنسا في الحروب النابليونية. وفي ظل عدم النية لمعاقبة فرنسا أو إذلالها، أعيد البلد إلى حدود ما قبل الثورة لأنه كانت هناك حاجة إلى المحافظة على السلام في القارة. ومع أخذ كل هذه الأشياء بعين الاعتبار، كان الاختيار هو الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها في عام 1945. ففي مواجهة التهديد السوفيتي المتزايد، كان الصواب دمج ألمانيا واليابان في مجتمع الأمم الديمقراطية بأسرع ما يمكن. وفي عام 1991 وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، لم تُقْدم أمريكا على إهانة روسيا بلا طائل، كما فعلت باريس ولندن بألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد 40 عاماً من النفوذ السوفيتي، كانت "أوروبا المخطوفة" في وسط شرق القارة متعطشة للديمقراطية والحماية. وكان لا بد من توفيرها. لكن هل أولت أمريكا اهتماماً كافياً لمشاعر روسيا؟ فأمريكا لم تنتصر في الحرب الباردة، بل خسرها الاتحاد السوفيتي. ليس الهدف إعفاء روسيا البوتينية من مسؤولياتها. بل على العكس، فإذا كان ثمّة درس واحد نتعلمه بعد ستة أشهر من الحرب الدائرة في أوكرانيا، برأي دومينيك مويزي، فهو الخطر الذي تمثله الأنظمة الاستبدادية في إشعال فتيل الصراعات وإدارتها. بوتين يبالغ في قوته وبمبالغة بوتين في تقدير قوته وتقليله من شأن خصومه، وقع وحيداً في الشرك الذي نصبه لنفسه. فمنذ مغامراته العسكرية الناجحة في جورجيا وشبه جزيرة القرم وسوريا، بات بوتين مقتنعاً بأنه ليس مجرد مخطط تكتيكي ذكي بل أيضاً مخطط استراتيجي عظيم، سليل مباشر لبطرس الأكبر وكاترين الثانية. باختصار، صار يعتقد أنه الرجل المختار لإعادة روسيا إلى عظمتها. أما من حوله - وكما هو المنطق الستاليني - فلم يجرؤ أحد على الإعراب عن تحفظات أو تحذيرات. يقول مويزي إن القوة عزلة تامة. وفي زمن الحرب، تكون الأنظمة الاستبدادية أشد خطورة وأشد هشاشة في آن لأنها تعلم أن خسارة الحرب تعني فقدان القوة بالنسبة لها، أو خسارة نفسها. وفي نهاية صيف 2022، نرى أن روسيا البوتينية هي الخاسر الرئيسي خلال تلك الأشهر الستة من الحرب في أوكرانيا، ليس فقط لأن موسكو تتعثر في مواجهة خصم أضعف منها للغاية - على الورق - بل أيضاً لأن عدم انتصارها تترتب عليه تكلفة جيوسياسية، وهي أن تجد موسكو نفسها معتمدة على بكين اعتماداً مبالغاً فيه. على مر السنين، تحولت روسيا تدريجياً إلى شريك الصين الصغير. وهي اليوم غارقة في ديونها. هل كان ذلك ما أراده بوتين؟ ما الهدف الذي حققه في الواقع؟ لقد أراد "فنْلدة" أوكرانيا، فكان ما ناله بدلاً من ذلك "أطلسة" فنلندا والسويد. بإغلاق كتاب ما بعد الحرب الباردة (وربما معه كتاب العولمة)، جعلتنا الحرب الأوكرانية ننتقل من عالم تهيمن عليه إلى حد كبير العوامل الجيواقتصادية إلى عالم تكتسب فيه الاعتبارات الجيوسياسية مكانة مركزية أكثر فأكثر. قبل 31 عاماً، عندما سقط الاتحاد السوفيتي، بدا أن عولمة وأمركة العالم تسيران جنباً إلى جنب. وجاء انهيار البرجين التوأمين في سبتمبر (أيلول) 2001، ثم الأزمة المالية لعام 2008 والانهيار الرمزي لبرج "ليمان براذرز"، للفصل بين الظاهرتين. فماذا لو كانت العولمة، بدلاً من دعم مركزية الولايات المتحدة في العالم، تعني نقل شعلة التاريخ إلى الصين و/أو آسيا الهندية؟ على مدى الأشهر القليلة الماضية من 2022، برز درس واحد بمزيد من الوضوح، وهو أن هناك حدوداً للقوة العسكرية، غالباً عندما لا تكون كمية القوات والأسلحة كافية للتمييز بين نوعية الرجال وإصرارهم. فروسيا ليست جامدة عن إحراز تقدم فحسب، بل هي تخاطر - من خلال حادث نووي عرضيّ - بتعريض كوكبنا لانتكاسة.