التجارة.. هل تشعل حربا تمتد من اوكرانيا الى تايوان؟

عربي ودولي
قبل سنتين I الأخبار I عربي ودولي

خلال العام الجاري، اضطرت النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والغرب إلى التفكير في احتمال اعتبره كثيرون غير وارد تقريبا منذ زمن الحرب الباردة، وهو نشوب صراع عسكري كبير بين قوتين عظميَين. ولأول مرة منذ عقود، أعلنت موسكو التعبئة العامة الجزئية لقوة احتياط الجيش الروسي مع تهديدات صريحة باستخدام السلاح النووي.

 

 

 

 

في وقت غير بعيد، عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي "نانسي بيلوسي" إلى تايوان، صعَّدت بكين هي الأخرى تهديدها بتنفيذ عمل عسكري في الجزيرة، وأجرت مناورات عسكرية بالفعل في جوارها، مع تزايد الحديث عن احتمالية غزو تايوان. وتقدح هذه التطورات التاريخية في فكرتَيْ العولمة والاعتماد الاقتصادي والتجاري المتبادل بوصفهما قاعدة للسلام. تعتمد كلٌّ من الصين وروسيا بدرجة غير عادية على التجارة لتحقيق النمو الاقتصادي وتأمين موقعهما على المسرح العالمي. فقد تمكَّنت الصين من مضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي خمس مرات في العقدين الماضيين من خلال تصدير المنتجات المصنعة بدرجة كبيرة، في حين يأتي أكثر من 50% من عائدات الحكومة الروسية من تصدير النفط والغاز. ووفقا للرؤية الليبرالية للعلاقات الدولية، تضع هذه العلاقات الاقتصادية ثمنا أعلى بكثير للصراع العسكري لكلا البلدين. ومع ذلك، لا يبدو أن روسيا على الأقل قد ردعتها فكرة الخسارة المحتملة لتجارتها عن غزو أوكرانيا، كما أن الصين تُبدي مؤخرا مواقف أشد صرامة حيال أمنها القومي غير عابئة أيضا بكلفتها الاقتصادية. 

 

 

 

 

 

كما جرت العادة، لا يتحرك العالم بالشكل الذي يتحدث عنه الليبراليون دوما. ففي ظروف معينة، قد تكون العلاقات التجارية بمنزلة حافز للحرب وليس رادعا للراغبين في خوضها. والأهم من ذلك، فإن تأكيد القوة العسكرية أو حتى التهديد بالمواجهة العدائية لا يرتبط بقطع العلاقات الاقتصادية بالضرورة، كما أوضحت الحالات المتناقضة للصين وروسيا خلال العام الماضي. وبالنسبة لأولئك الذين يفترضون أن التكامل الاقتصادي والتبادل التجاري الواسع يمكن أن يساعدا في منع اندلاع صراع بين القوى العظمى، نُقدِّم لهم في هذا التقرير ما أورده كتاب "الحرب والاعتمادية الاقتصادية المتبادلة" (Economic Interdependence and War) الصادر عام 2014 للأكاديمي الأميركي "دَيل كوبلاند"، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فيرجينيا، ونشتبك مع أطروحته في ضوء التطورات الراهنة التي توقَّع الكاتب بعضها.

عموما، تركز الواقعية على صراع القوى العظمى من أجل القوة العسكرية النسبية والموقع في عالم يفتقر إلى سلطة مركزية لحمايته، لكنَّ الواقعيين يدركون أن القوة الاقتصادية هي أساس القوة العسكرية طويلة الأمد، وأن التجارة الدولية أمر حيوي لبناء قاعدة قوة اقتصادية. وللتجارة تأثيران رئيسيان في نظر الواقعيين، أولهما توفير الوصول إلى المواد الخام الرخيصة والأسواق المُربِحة، بما يتيح للتجارة أن تعزز الأداء الاقتصادي العام للدولة والتطور التكنولوجي، ومن ثمَّ تعزيز قدرتها على دعم القوة العسكرية على المدى الطويل. وهذا هو الجانب الإيجابي لوجود سياسة تجارية منفتحة نسبيا، ويُفسِّر -بحسب الكاتب- لماذا تركت اليابان قبل الحرب العالمية الثانية، والصين بعد وفاة "ماو زيدونغ"، سياسات الحكم الذاتي الفاشلة سعيا للانضمام إلى الاقتصاد العالمي.

 

 

 

 

 

 

 

 

لكن التجارة المتنامية لها تأثير ثانٍ أيضا، فهي تزيد من تعرُّض القوة العظمى للعقوبات التجارية والحظر بعد أن أصبحت معتمدة على استيراد الموارد وتصدير البضائع إلى الخارج. فلطالما دفعت هذه الثغرة بالقادة إلى بناء قوات بحرية لحماية طرق التجارة، بل وحتى خوض الحروب لضمان الوصول إلى السلع والأسواق الحيوية. وقد توقَّع قادة الدول أن تظل علاقاتهم التجارية قوية في المستقبل، حيث رجَّحوا كفة الاعتماد أكثر على الغرباء من أجل الموارد والأسواق، التي تدفع نمو الدولة في الأخير. كان هذا هو الوضع في اليابان بين عامَيْ 1880-1930، والصين من عام 1980 حتى يومنا هذا. وقد عرف القادة في كلتا الدولتين أنه بدون العلاقات التجارية المهمة مع القوى العظمى، بما في ذلك الولايات المتحدة، لا يمكن لأيٍّ منهما أن يصبح عضوا مهما في نادي القوى العظمى.

 

 

وبحسب كوبلاند، فإن ما تطرحه المدرسة الواقعية هنا بسيط وبديهي للغاية، وهو أنه إذا ساءت التوقعات بشأن التجارة المستقبلية واعتقد القادة أن القيود التجارية بالدول الأخرى ستبدأ في الحد من وصولهم إلى الموارد والأسواق الرئيسية، فإنهم سيتوقعون انخفاضا في القوة الاقتصادية طويلة الأجل، ومن ثمَّ القوة العسكرية. وقد يتوصلون بعدئذ إلى الاعتقاد بأن السياسات الأكثر حزما وعدوانية ضرورية لحماية طرق التجارة وضمان إمدادات المواد الخام والوصول إلى الأسواق. كان هذا هو المأزق الذي واجهته اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث شهدت تراجع فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى سياسات اقتصادية حمائية شديدة الانغلاق والتمييز، وهو ما يبدو أن الصين بدأت تواجهه اليوم منذ تدشين سياسات ترامب وبايدن الحمائية المتزايدة، ودعاوى إعادة توطين الصناعات الغربية خارج الصين، وحظر إمداد أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصناعات الصينية.

 

في المثال الياباني، وجد القادة اليابانيون أنفسهم مضطرين إلى توسيع سيطرة اليابان على علاقاتها التجارية مع جيرانها. ومع ذلك، توصلوا أيضا إلى أن مثل هذه التحركات جعلتهم يبدون أكثر عدوانية، مما أعطى بريطانيا والولايات المتحدة أسبابا جديدة لتقييد واردات اليابان من المواد الخام، بما في ذلك النفط، ومن ثم تفاقمت سلسلة أحداث أدت إلى هجوم سلاح الجو الياباني على ميناء "بيرل هاربر" إبَّان الحرب العالمية الثانية. اليوم، يدرك قادة الصين أنهم يواجهون معضلة مماثلة، فهُم يعلمون أن سياستهم الخارجية بحاجة إلى أن تكون معتدلة بما يكفي للحفاظ على الثقة الأساسية التي تسمح للعلاقات التجارية بالاستمرار، لكنهم يحتاجون أيضا إلى إظهار قوة عسكرية كافية لردع الآخرين عن قطع تلك العلاقات أو معاقبتهم اقتصاديا. إن النظرة الواقعية لكيفية تأثير التجارة على السياسة الخارجية تُفسِّر كثيرا لماذا وقف القادة الصينيون ضد تطورات معينة في شرق آسيا العام الماضي، لا سيما ما يتعلق بتايوان. ولكن ماذا تقول المدرسة الواقعية للتجارة الدولية عن هوس الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بأوكرانيا؟

 

 

الأسباب التجارية للحرب الأوكرانية وفقا لمعظم التحليلات، شنَّ بوتين حربه على أوكرانيا مدفوعا بمخاوف حيال الأمن القومي الروسي، وقلقه من احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو على المدى القريب، ورغبته في دخول التاريخ باعتباره الرجل الذي ساعد في إعادة بناء الإمبراطورية الروسية. ولكن قرار الغزو تعزَّز على الأرجح بطريقتين مهمتين عنوانهما الأساسي صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا.  

 

 

أول عوامل ترجيح كفة الغزو هو أن بوتين أدرك اعتماد أوروبا الشديد على روسيا في مجال الطاقة. فقد اعتمد الاتحاد الأوروبي على موسكو قبل الحرب في تدبير 40% من احتياجاته من الغاز الطبيعي الذي تحتاج إليه أوروبا لصناعاتها وتدفئة منازلها. واعتمد الاقتصاد الروسي بدوره على بيع هذا الغاز، ولكن نظرا لطبيعة السلعة، تمكَّن بوتين من أن يتوقع ما سيؤدي إليه الانخفاض الكبير في تدفق الغاز الطبيعي من ارتفاع سعره بشكل يضر الاتحاد الأوروبي، بينما يؤثر تأثيرا هامشيا فقط على إجمالي إيرادات روسيا التي ستعوض انخفاض تدفق الغاز بارتفاع سعره. تقول المدرسة الواقعية في حالة الاعتمادية المتبادلة غير المتكافئة (كما في حالة روسيا والاتحاد الأوروبي) إن من المرجح أن تشعر الدولة الأقل اعتمادا بالثقة في قدرتها على إقناع نظرائها الأكثر اعتمادا بقبول خيارات صعبة، مثلما جرى مع انتزاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، وهو ما راهن بوتين عليه مرة أخرى هذا العام. ولكن من الواضح لنا الآن أنه قلَّل من شراسة الاستجابة الأوروبية المحتملة، فقد ساعده اعتماد أوروبا الاقتصادي على روسيا، واعتقاده بأن روسيا يمكن أن تهزم أوكرانيا في غضون أسابيع، في الشعور بالثقة حيال هجومه الجريء ونجاحه، الذي لم يتحقَّق حتى الآن بالطبع.

 

 

العامل الثاني الذي حفَّز الغزو هو تخوُّف بوتين من أن النفوذ الاقتصادي لروسيا على أوكرانيا وأوروبا سينخفض في المستقبل. ففي عام 2010، اكتُشِفَت رواسب ضخمة من الغاز الطبيعي في أوكرانيا، ومع تزايد نشاطات الكشف عن الغاز، وصلت التقديرات باحتياطي الغاز في أوكرانيا إلى أكثر من تريليون متر مكعَّب، وهو أكبر احتياطي في أوروبا بعد النرويج، إذا استثنينا روسيا. بيد أن الاحتياطي الضخم يحتاج إلى استثمارات ضخمة لاستخراجه، ووقت أيضا قبل أن يحقق الاكتفاء الذاتي لأوكرانيا وتبدأ بعده كييف التصدير إلى أوروبا. لذا، في عام 2013، وقَّعت أوكرانيا اتفاقية مع شركة "شِل" بقيمة 10 مليارات دولار لاستخراج الغاز الصخري، كما وقَّعت مع شركة "إكسون موبيل" اتفاقا للعمل على استخراج الغاز من المياه العميقة قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لأوكرانيا في البحر الأسود. رغم أن غزو بوتين لشبه جزيرة القرم ودونباس عام 2014 لربما كان مدفوعا بمخاوف أخرى، يقول كوبلاند إن جزءا من دوافع موسكو تعلَّقت باستخراج الغاز الطبيعي في شرق أوكرانيا بواسطة الشركات الغربية، ومن ثم تقليص اعتماد كييف على روسيا، بل وكذلك تعزيز فرص أوروبا لتنويع مصادر الطاقة بعيدا عن روسيا، مما يُضعِف موقف روسيا السياسي في العلاقات مع أوروبا، التي يُمثِّل ملف الطاقة فيها الورقة الروسية الأهم. دولة كبيرة ورقاقات صغيرة الصين تعتمد على تايوان في أكثر من 90 بالمئة من الرقاقات الإلكترونية الضرورية لشتى أنواع الأجهزة الإلكترونية والصناعات المتطورة. (شترستوك) على الناحية الأخرى من العالم، تبدو الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة بين الصين وبقية العالم أكثر تناسقا مما هي عليه في روسيا، حيث يعتمد اقتصاد الصين على تصدير السلع المُصنَّعة. مثله مثل الاقتصاد الياباني في فترة ما بين الحربين العالميتين، يعتمد اقتصاد الصين اعتمادا كبيرا على استيراد المواد الخام للحفاظ على استمرار اقتصادها، بما في ذلك النفط والغاز من الشرق الأوسط وروسيا. وتوفر الصين نسبة كبيرة من أجهزة الحاسوب المحمولة والهواتف الذكية وأنظمة اتصالات الجيل الخامس في العالم، مما يمنح البلاد بعض النفوذ مع شركائها التجاريين.

 

 

لكن في المقابل، يمكن أن يهدد هؤلاء الشركاء بفرض قيود انتقائية على الصادرات والواردات إذا ما توتَّرت علاقاتهم بالصين. ويُشكِّل هذا الاعتماد على الغير نقطة ضعف واضحة لبكين. فعلى عكس روسيا، التي يمكن بالتأكيد أن تتضرر جراء العقوبات الاقتصادية، لكن قدرتها على بيع النفط والغاز بأسعار مرتفعة تظل قائمة؛ فإن الصين إذا واجهت عقوبات اقتصادية بأي صورة مشابهة لما جرى مع روسيا فسيلحَق باقتصادها أضرار بالغة. ويعمل وعي بكين بهذا الضعف بالفعل بوصفه رادعا حقيقيا لرغباتها التوسعية، بما في ذلك خططها لغزو تايوان، ومن ثم يجعلها أشد حرصا وهدوءا في تحركاتها الدولية مقارنة بروسيا.

 

لنتأمل التفاصيل الفعلية لرد فعل الصين على زيارة بيلوسي إلى تايوان قياسا على أطروحة كوبلاند، فرغم التهديدات التي وجَّهتها من خلال التدريبات العسكرية القوية وإطلاق الصواريخ التي مرت في المجال الجوي لتايوان، فإن الصين قَصَرت ردها الاقتصادي إلى حدٍّ كبير على العقوبات المفروضة على الصادرات الزراعية التايوانية. والجدير بالذكر أن المسؤولين الصينيين تجنَّبوا وضع أي قيود على صادرات أشباه الموصلات التايوانية، لأن الصين تعتمد على تايوان في أكثر من 90% من الرقاقات الإلكترونية الضرورية لشتى أنواع الأجهزة الإلكترونية والصناعات المتطورة. ولذا، حرصت الصين على عدم معاقبة الولايات المتحدة مباشرة خوفا من التسبب في حرب تجارية جديدة من شأنها أن تفاقم تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي تسبَّبت فيه جائحة كورونا. ومع ذلك، فإن الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة بين الصين والعالم يمكن أن تؤدي بها إلى اتخاذ إجراءات صارمة إذا تراجعت التوقعات الصينية بشأن التجارة في المستقبل. وتُعَدُّ حالة أشباه الموصلات المثال البارز لتلك الفرضية الواقعية القائلة إن التجارة يُمكن أن تؤدي إلى الحرب، إذ تمتلك الصين الآن بعض القدرة على إنتاج رقاقات إلكترونية صغيرة، ولكن للبقاء في طليعة التطورات التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي، وإنتاج الأجهزة الإلكترونية، فإنها تحتاج إلى شرائح أكبر حجما وأكثر تطورا، التي يمكن فقط لتايوان إنتاجها حتى الآن بكميات كبيرة وبمستوى عالٍ من الجودة. على سبيل المثال، أحدث إصدار من هاتف "آيفون"، ورغم تجميعه في الصين، يستخدم شريحة صُنعت بواسطة شركة تايوانية.

 

 

عبر طمأنة بكين بشأن أشباه الموصلات، يمكن لواشنطن إذا أرادت أن تقلل من احتمالية نشوب حرب. وليست هناك مبالغة في القول إن المستقبل الكامل لقدرة الصين على اللحاق بالولايات المتحدة يعتمد على استمرار الوصول إلى الرقاقات الإلكترونية التايوانية، وهو موقف مماثل لموقف اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي حين اعتمدت على الوصول إلى النفط الذي سيطر عليه الأميركيون والبريطانيون. ومثلما حدث عام 1941 مع الحظر النفطي الأميركي، إذا اشتبه المسؤولون الصينيون في أن الولايات المتحدة قد تتخذ خطوات لقطع وصول الصينيين إلى الرقاقات الإلكترونية التايوانية، فقد يقررون أن من الضروري الاستيلاء على الجزيرة لتجنب التدهور الاقتصادي طويل الأجل. ليس هذا سيناريو بعيد المنال. ففي يونيو/حزيران 2022، أعلن "تشَن وِنلينغ"، الخبير الاقتصادي الصيني بمركز الصين للتبادل الاقتصادي الدولي، أنه إذا فرضت واشنطن عقوبات على الصين مماثلة لتلك التي فُرِضَت هذا العام على روسيا، فيجب على الصين غزو تايوان لتأمين منشآتها وضمان توريد الرقاقات الإلكترونية. هنا تحديدا نصل إلى إحدى ركائز رؤية كوبلاند الواقعية للعلاقات والتجارة الدولية، إذ إن التوقعات الصينية بشأن مستقبل تجارتها يماثل توقعات اليابان حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وترتبط ارتباطا وثيقا بالقرارات السياسية الأميركية. ولذا يُمكن لصناع القرار الأميركيين تجنُّب تكرار الخطأ نفسه وطمأنة قادة الحزب الشيوعي الصيني بأن بلادهم ستستمر في تلقي أشباه الموصلات من تايوان، ومن ثمَّ تقليل احتمالية نشوب أزمة وحرب عالمية. قد يتحفَّظ قادة صينيون كُثُر على اعتماد الصين المستمر في مجال الرقاقات الإلكترونية على تايوان، ولكن ما دامت فوائد التجارة المفتوحة مستمرة، فإن الهجوم على تايوان سيظل أعلى كُلفة في نظرهم من مواصلة نموذجهم الاقتصادي وتحقيق طفرات في صناعة الإلكترونيات بالتدريج بينما تتراكم فوائد التجارة مع العالم، لا سيما أن الهجوم على تايوان لتحقيق مكاسب سياسية قد يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية تنسف أسس الاقتصاد الصيني، علاوة على احتمالية تدمير المصانع التايوانية التي تُصنِّع الرقاقات الإلكترونية. ولذا، لدى الصين حتى الآن ما يكفي من الأسباب للرهان على أن الولايات المتحدة ستُبقي باب التجارة مفتوحا لتجنُّب الحرب وحماية اقتصاد الإلكترونيات عالميا.

 

 

هشاشة العولمة لعل بوتين راهن على أن الغرب سينقلب على أوكرانيا بالنظر إلى اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسيَّين، لكنَّ القادة الصينيين باتوا يعرفون الآن أن الأميركيين والأوروبيين لديهم العزم على معاقبة خصومهم، وأن مهاجمة تايوان قد تُدمِّر كل ما حققه الحزب الشيوعي الصيني على مدى العقود الأربعة الماضية. ويُظهر التاريخ أن القوى العظمى التي تعتمد في صعودها على الخارج، تتوخى الحذر في سياساتها الخارجية عندما يكون لدى قادتها توقعات إيجابية بشأن مستقبل التبادل التجاري، لأنهم يعلمون أن التجارة ستساعد في بناء قاعدة سلطة الدولة على المدى الطويل وزيادة نصيب المواطن من الثروة. ويحتاج الرئيس الصيني "شي" إلى أن يحدث كلاهما إذا أراد الحفاظ على شرعية حكم الحزب الواحد في الصين واستقرار الدولة نفسها. عندما تسعى القوى العظمى إلى استخدام الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة للمساعدة في الحفاظ على السلام، فإنها تواجه عملية موازنة صعبة. فلا يكفي الحصول على معدلات تجارة مرتفعة، لأن الدول التي تجني ثمارها -مثل اليابان قبل الحرب العالمية الثانية والصين اليوم- يمكن دفعها إلى سياسات أكثر عدوانية إذا شعرت أنها لا تتمتع بإمكانية الوصول الكافي إلى المواد الخام والأسواق التي تحتاج إليها الدولة للحفاظ على مكانتها بوصفها قوة عظمى، وحينها قد تنحصر الخيارات في انحدار بطيء من على سلم القوى الدولية أو اللجوء إلى المواجهة. لذلك، يجب على قادة الدول الأقل اعتمادا على الآخرين مثل الولايات المتحدة أن يحرصوا على عدم الإشارة إلى أنهم يسعون إلى إعاقة الدول المنافسة الأكثر اعتمادا عن تحقيق أهدافها السياسية، أو دفعها إلى التراجع الاقتصادي خشية المنافسة -وهو خيار أسوأ- مثلما فعل الحظر النفطي الذي فرضه الرئيس "فرانكلين روزفلت" على اليابان عام 1941. ومع ذلك، يمكن أن تكون سياسة التجارة المفتوحة مشكلة أيضا لأنها تساعد الدولة التابعة على اللحاق بالقوى العظمى المتقدمة عليها، ومن ثمَّ تهديد تفوقها على المدى الطويل، الأمر الذي أزعج الإدارات الأميركية بدءا من إدارة "أوباما" مرورا بإدارة ترامب وحتى الإدارة الحالية بقيادة "بايدن".

 

 

مع التوترات الحالية حول تايوان، التي تفاقمت بسبب اصطفاف "شي" مع بوتين في حربه ضد أوكرانيا، بات من الصعب عودة دبلوماسية القوة العظمى إلى مستوى أكثر توازنا، فقد فقدت العولمة الاقتصادية جزءا من حجتها الأساسية لنشر السلام فيما يتعلق بروسيا بعد العقوبات الغربية على موسكو. وبينما تظل روسيا بعيدة نسبيا عن حسابات الاقتصادات الصناعية الكبرى، وتقتصر تأثيراتها المباشرة على سوق الطاقة، تحتاج النخب الحاكمة في الولايات المتحدة إلى الاستفادة من درس عام 1941 في علاقاتها مع الصين، إذ إن تدمير توقعات بكين لمستقبل تجارتها يمكن أن يؤدي إلى الحرب. في الوقت نفسه، تستطيع الصين الاستفادة من أخطاء اليابان السابقة، وتجنُّب السياسات العدوانية غير المدروسة. لكن إذا لم ينجح القادة في واشنطن وبكين في التواصل وتعزيز سبل التبادل التجاري مع حل المشكلات السياسية العالقة دبلوماسيا، فإننا سنكون أمام عالم جديد مختلف تماما عن عالم ما بعد الحرب الباردة.