مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا منذ نحو 10 أشهر وعدم وجود أفق واضح لحل سياسي أو احتمال تسوية تنهي الصراع على المدى القريب، ينصب اهتمام كلا الطرفين المتحاربين --موسكو من جهة وكييف ومن ورائها حلفاؤها الغربيون من جهة أخرى- على حشد الإمكانيات والقوة اللازمة لإلحاق الهزيمة عسكريا بالطرف الآخر.
وشكلت استعادة كييف مؤخرا عددا من المناطق الإستراتيجية وفي مقدمتها خيرسون مسارا حرجا للحرب أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسط مخاوف من خطورة الخيارات التي بقيت بيده. ومع لجوء بوتين لاستخدام عدة خطوات خلال أشهر الحرب الماضية (التعبئة الجزئية، تجنيس الأجانب مقابل القتال، التلويح بالنووي) وغيرها من الوسائل لدعم قواته، يرى مراقبون أن موسكو لن تدخر وسيلة لحشد وتعظيم قوتها في مواجهة كييف وحلفائها.
وبين الوسائل المتاحة -وفق المراقبين- تظهر إمكانية استثمار روسيا للمعاهدات العسكرية ومعاهدات الدفاع المشترك والأحلاف التي تشترك بها، في ظل المخاوف من توسع الحرب ومشاركة حلف شمال الأطلسي (ناتو) وحلفاء كييف الغربيين بشكل مباشر، مما قد يزيد من احتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة، وفق ما تحذر منه موسكو نفسها.
وتعد معاهدة "الأمن الجماعي" إحدى المعاهدات المتاحة أمام موسكو لحشد قوة عسكرية بشرية وتسليحية للمشاركة في الحرب، وفق الخبير العسكري والإستراتيجي فايز الأسمر. ما "معاهدة الأمن الجماعي"؟ إلى جانب روسيا، تضم منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" (CSTO) 5 دول سوفياتية سابقة (بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان) وتتحكم بها موسكو بالشكل الرئيس، وكانت بعض التقارير أشارت إلى أنها كانت تفكر قبل حرب أوكرانيا بتطوير هذه المعاهدة لتنافس حلف الناتو.
و"معاهدة الأمن الجماعي"، وفق وثائق تأسيسها، منظمة دولية إقليمية، أهدافها المعلنة تتمثل في تعزيز السلام والأمن والاستقرار على الصعيدين الدولي والإقليمي، والحماية الجماعية لاستقلال وسلامة أراضي الدول الأعضاء وسيادتها، وتعطي الدول الأعضاء الأولوية للوسائل السياسية لحل النزاعات. وأُعلن إنشاء المنظمة يوم 15 أيار 1992، بالتوقيع على معاهدة الأمن الجماعي في طشقند بأوزبكستان، وأعلى هيئة هي مجلس الأمن الجماعي الذي يعيّن الأمين العام للمنظمة، وإجمالي عدد سكان الدول الأعضاء في المنظمة يبلغ نحو 194 مليون نسمة (2021)، وعدد قوات حفظ السلام التابعة لها هو 3600، حسب بيانات عام 2022.
ويقع مقر المنظمة في العاصمة الروسية موسكو، ولها أمانة عامة دائمة، في حين تتناوب الدول الأعضاء على رئاسة المجموعة، وتستمر الفترة الرئاسية لسنة واحدة. ووقع رؤساء الدول الأعضاء بمنظمة الأمن الجماعي -في أثناء القمة- على بروتوكول يتضمن آلية تقديم المساعدات العسكرية التقنية للدول الأعضاء في المنظمة، في حال ظهور تهديد بالعدوان عليها، أو في حالة العدوان الفعلي عليها. كل الخيارات مطروحة وقال الأسمر -للجزيرة نت- إن كل الاحتمالات بتوسع دائرة الصراع واردة مع ما وصفه "بتعنت" بوتين الشديد، الذي يقابله في الطرف الآخر عدم قبول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الجلوس إلى طاولة المفاوضات إلا بعد الانسحاب الروسي الكامل من الأراضي الأوكرانية.
وأضاف الخبير العسكري والإستراتيجي أن القيادة الروسية لا يزال يراودها حلم وطموح إعادة أمجاد الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفياتي السابق والعمل على وقف زحف حلف الناتو باتجاه حدودها، ولذلك قامت موسكو -خاصة في السنوات الأخيرة- باللجوء إلى إظهار قوتها العسكرية وفرض أجندتها ونشر قواعدها في العديد من بلدان العالم، ومنها سوريا وليبيا وبعض الدول الأفريقية.
ولفت إلى أن دول الاتحاد السوفياتي السابق -مثل (أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان) التي تعد عمليا الحديقة الخلفية الأهم لروسيا وحدودها- جمعتهم موسكو في منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" التي تتسيدها، إذ يخشى الكرملين من فقدان النفوذ في هذه البلدان وانفراط عقدها الحالي، وبالتالي تكرار تجربة أوكرانيا في الاقتراب من الناتو. وأشار الأسمر إلى أن الكرملين -بسبب الحرب على أوكرانيا أو ما تسمى عمليته الخاصة هناك- بات يعاني مع جيشه من كثرة الخسائر المادية والبشرية الفادحة، وبات هذا الجيش يغوص في مستنقع استنزاف دام قد تطول معاركه من دون تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي رسمها وحددها بوتين في بداية خطوته، ولذلك لمسنا إجراءات التعبئة الجزئية، والتلويح بالنووي، واستقدام المرتزقة واللجوء للحصول على أنواع من الأسلحة من إيران. وبالتأكيد، مع غضب بوتين وتخبطه وسلوكه، حسب الأسمر، تزداد المخاوف الدولية من توسع الحرب، خاصة إذا توجت باتخاذ إجراءات مفاجئة وغير مقدرة أو محسوبة النتائج من الأطراف كافة. فبوتين ولتحقيق أهدافه أو بعض منها ممكن أن يلجأ إلى أي شيء كاتفاقيات الدفاع المشترك ومنها منظمة الأمن الجماعي مع دول جواره، وهذا الأمر تم منذ فترات مع بيلاروسيا التي توجد فيها قوات روسية، وقبل أيام فقط أجرت روسيا مناورات مشتركة على الأراضي البيلاروسية قرب الحدود الشمالية الأوكرانية. تحديات أمام روسيا ووفق مراقبين، فإن موسكو تسعى من خلال "معاهدة الأمن الجماعي" إلى استعادة أمجاد حلف وارسو ومواجهة تطلعات حلف شمال الأطلسي. وتسعى المنظمة إلى تحقيق جملة من الأهداف في المجالين السياسي والعسكري. وينص ميثاق المنظمة على امتناع الدول الأعضاء عن استعمال القوة أو التهديد في ما بينها، وعن الانضمام إلى أحلاف عسكرية أخرى. كما نص على أن الاعتداء على أي عضو في المجموعة يعد اعتداء على بقية الأعضاء.
وتواجه أطراف المعاهدة منذ سنوات تحديات كثيرة، منها توحيد الموقف بشأن عسكرة الاتفاقية وهو الهدف الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه بغرض مواجهة ما تعتبره "أطماع الناتو" ومحاصرة تطلعاته في القارة الآسيوية. وخلال السنوات الماضية، أثار المسعى الروسي العديد من المخاوف لدى بعض أطراف المعاهدة التي رأت فيه محاولة لإحياء حلف وارسو والتضييق على خياراتها وسياساتها السيادية. لا إمكانية للتدخل من جهته، يشير الخبير العسكري وليد العيسى إلى أن بعض الدول الأعضاء بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي تمتلك رؤيتها ومصالحها الخاصة رغم اشتراكها بالمعاهدة، وبذلك لن يكون ممكنًا -على سبيل المثال- تكرار تدخل حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا سابقا عام 1968.
ويضيف العيسى أن روسيا بالشكل الأساس هي القوة الفاعلة في المعاهدة، وقد تستخدمها للتدخل في الدول الموالية لها، كما حدث في كازاخستان مطلع العام الجاري عندما قرر الأعضاء بالإجماع وبإيعاز روسي إرسال قوات حفظ سلام إلى كازاخستان لفترة محددة، بهدف إعادة الاستقرار فيها بعد احتجاجات شعبية واسعة.
وتابع أن المنظمة من الممكن أن تتدخل في حفظ السلام أو أزمات طارئة محدودة فقط، لكن لا تتدخل عسكريا في الصراعات الكبرى، وظهر هذا في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، حيث لم تتدخل المنظمة إلى جانب أرمينيا العضو فيها، الأمر الذي أثار حفيظة يريفان التي باتت تجاهر بانتقاد الحلف ووصفت تعامله مع صراعها مع جارتها أذربيجان بالفاشل. واستبعد العيسى أن تلجأ روسيا لتفعيل أو استخدام معاهدة الأمن الجماعي للحصول على دعم عسكري أو قوات للمشاركة في الحرب، خاصة أن الدول الأعضاء لا تملك القوة الكافية للقيام بهذا الدور، وأيضا لأن هذا الأمر يعني بداية حرب عالمية ثالثا، خاصة أن حلفاء كييف وحلف الناتو القوي لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيردون أيضا بالمثل رغم تأكيدهم مرارا أنهم لا يعتزمون الانجرار وراء ما يصفونه بحرب بوتين على أوكرانيا.