الحدود التشادية السودانية: عقدوا العزم على دفن موتاهم، حتى لو كان وجود القناصة على أسطح المنازل المحيطة بهم يعني المخاطرة بحياتهم للقيام بذلك.
وليوفروا غطاء لأنفسهم، دفنوا الموتى ليلا ووضعوا العديد من الجثث في نفس القبور المحفورة على عجل. كانوا يعملون بسرعة، واضطروا للاستغناء عن الكثير من شعائر الدفن الإسلامي، إذ وضعوا الآباء والأمهات والأبناء والبنات والجيران معا في الأرض. وتظهر على الجثث الطريقة الوحشية التي انتهت بها حياة أصحابها. فقد حُرق البعض لدرجة أنه لا يمكن التعرف عليه، والبعض كان فاقدا لبعض الأطراف، وآخرون تظهر عليهم جروح بالغة عند الحلق.
وكان تدفق الجثث مستمرا. ففي 24 أبريل نيسان، يقول المدرس عبد الماجد عبد الله إنه ساعد في نقل 52 جثة ملفوفة بأغطية، 27 رجلا و16 امرأة وتسعة أطفال، حيث أرقدوهم في صف في حفر حديثة.
وفي 27 أبريل نيسان، يقول الجراح كمال آدم إنه رافق جثمان والده الذي قتل بالرصاص داخل منزله، ووضعه في واحدة من ثلاث حفر كبيرة ومعه 107 جثث أخرى. وفي 29 أبريل، دفنوا 56 آخرين. وفي السابع من مايو أيار، حضر المحامي خالد إسماعيل دفن 85 شخصا بينهم زميله الذي يقول إنه أُحرق حيا بعد أن حبسه المهاجمون في بيته وأشعلوا فيه النار.
واستمر الدفن في مقبرة الغابة لأكثر من سبعة أسابيع، من أواخر أبريل- نيسان حتى منتصف يونيو حزيران، وتحولت قطعة الأرض المستطيلة إلى مقبرة جماعية مترامية الأطراف لما لا يقل عن 1000 من سكان مدينة الجنينة السودانية بولاية غرب دارفور.
تفيد العشرات من روايات الشهود بأن المذبحة نتجت عن أكثر من 50 يوما من الهجمات على قبيلة من عرق إفريقي تشكل أغلبية سكان المدينة. وشنت الهجمات قوات الدعم السريع السودانية، وهي قوة شبه عسكرية منبثقة بشكل كبير من الجماعات العربية والميليشيات العربية المتحالفة معها المعروفة باسم الجنجويد.
وصل سعار القتل إلى ذروته على مدى عدة أيام منتصف يونيو- حزيران، وتحولت الجنينة إلى “مستنقعات من الدم” بحسب وصف أحد الناجين. ووصف آخر إراقة الدماء بأنها “يوم القيامة”.
وكان الخطر مستمرا بلا هوادة لدرجة أن العديد من الناجين قالوا لرويترز إنهم لم يتمكنوا من دفن موتاهم على الفور كما يقتضي العرف الإسلامي والمحلي. تقول فاطمة إدريس إن رجال الميليشيات العربية قتلوا زوجها وثلاثة رجال آخرين بالرصاص في منزلها، ثم استعدوا لحرق الجثث.
وتوسلت قائلة “لا تشعلوا النار فيهم”. وأضافت فاطمة أنها تمكنت من جر زوجها بعيدا وغطته ببطانية قبل أن تهرب وتعثر لاحقا على ملاذ على الجانب الآخر من الحدود في تشاد.
وقطعت على نفسها وعدا بأن تعود لتدفنه. إصرار الناجين على دفن قتلى الجنينة بكرامة هو أحد السمات المميزة للصراع الذي مزق المدينة. وأجرت رويترز مقابلات مع أكثر من 120 شخصا فروا من الجنينة إلى تشاد حيث تعيش فاطمة ومئات الآلاف غيرها من اللاجئين الآن في مخيمات.
وبكى كثيرون من الناجين وهم يصفون إطلاق النار على الأطفال، واغتصاب النساء والفتيات، واصطياد القناصين للناس في الشوارع، وذبح آخرين دخلوا المساجد بحثا عن ملاذ.
ومن خلال رواياتهم، المدعومة بتحليل صور التقطت بالأقمار الصناعية وصور فوتوغرافية ولقطات على وسائل التواصل الاجتماعي وقوائم بأسماء القتلى جمعها نشطاء حقوقيون محليون، تمكنت رويترز من تجميع أول سجل شامل للعنف الذي اجتاح الجنينة في وقت سابق من العام.
كانت حملة قتل متواصلة لدوافع عرقية استمرت أسابيع. والهدف: قبيلة المساليت ذات البشرة الداكنة في المدينة التي تعتبر ولاية غرب دارفور موطنها التاريخي. وقال العديد من الناجين إن المهاجمين العرب أشاروا في كثير من الأحيان للمساليت بلفظ “أنباي” وتعني العبد.
وشملت عمليات القتل، حسبما روى عشرات الشهود، إعدام سكان بالجنينة عرف انتماؤهم للمساليت، أحيانا بعد أن تستجوبهم قوات الدعم السريع ومقاتلو المليشيات العربية. وقال ناجون إن رجال المليشيات كانوا يركزون بشكل خاص على قتل الرجال والصبية من المساليت لأنهم في نظرهم قد يصبحون مقاتلين.
ومع سعيهن المستميت لإنقاذ أبنائهن، وصفت أمهات كيف ألبسنهم ملابس الفتيات وأخفوهم تحت الأسرّة أو تحت أردية فضفاضة، أو دفعهم إلى خارج النوافذ حتى يفروا قبل وصول مقاتلي قوات الدعم السريع والجنجويد. تكشف روايات الناجين عن حملة منهجية ومنسقة. فقد استهدفت نيران قذائف الهاون مناطق محددة في الجنينة يقطنها المساليت. ووضعت حواجز على الطرق الرئيسية للسيطرة على الحركة في المدينة. وطارد رجال المليشيات العربية بشكل خاص الشخصيات البارزة في مجتمع المساليت. وقال أكثر من 15 شاهد لرويترز إنه عندما انتهت الحملة، أشرف رجال المليشيات على محاولة لإخفاء الفظائع التي ارتكبت بما شمل دفن جثث على أطراف المدينة.
وقال حب الدين حسن، الناشط في حقوق الإنسان المنتمي للمساليت وهو من سكان الجنينة، إن ما حدث في المدينة، وهي عاصمة ولاية غرب دارفور، كان جزءا من حملة استمرت عقدين من “إبادة الناس والاستيلاء على أرضهم والتغيير الديموغرافي” تشنها قوات الدعم السريع والميليشيات العربية.
وأضاف حسن الذي فر إلى تشاد “يتم تمييز الرجال لقتلهم ومعروف الهدف من وراء هذا الكلام… الهدف هو إبادتهم والاستيلاء على الأرض وتغيير هوية البلد”.
ولم ترد قوات الدعم السريع على أسئلة رويترز بخصوص هذا الأمر. ولم يتسن الوصول إلى زعماء القبائل العربية.
وفي تصريحاتهم العلنية، ينفي زعماء القبائل العربية مشاركتهم في تطهير عرقي بالجنينة، وتقول قوات الدعم السريع إنها ليست ضالعة فيما وصفته بصراع قبلي. وفي مؤتمر صحافي نشر على صفحة أحد مجتمعات الجنينة على وسائل التواصل الاجتماعي في 21 أغسطس آب، اتهم زعماء القبائل العربية في غرب دارفور المساليت بالمسؤولية عن اندلاع القتال. وقالوا إن الجيش السوداني تواطأ مع المساليت وزودهم بالأسلحة لمهاجمة المجتمع العربي. ونفوا اضطلاع قوات الدعم السريع بدور في القتال.
وقال الأمير مسار عبد الرحمن أصيل، زعيم قبيلة الرزيقات، التي ينحدر منها العديد من قادة قوات الدعم السريع، “انت طالما إنسان بتريد الحرب وتشمر ساعدك للحرب أبقى قوي وتحمل نتائج اللي بتطلع بيها الحرب”. ولم يرد الجيش السوداني على الأسئلة المتعلقة بالأمر، ومنها سؤال عن سبب عدم تدخل الجنود المتمركزين في الجنينة لحماية المدنيين الذين يتعرضون للهجوم.
ولم تتمكن رويترز من التأكد بشكل مستقل من بعض روايات الناجين. لكن الشهود كانوا متفقين في وصف العنف وفي التفاصيل وتسلسل هذه الأحداث في الجنينة. وفي حالات كثيرة، وصف العديد من الناجين نفس الحدث.
وفي بعض الحالات، أظهرت صور الأقمار الصناعية ما كان يحدث على الأرض، مثل الصور التي تكشف انتشارا كبيرا للدمار في مساحات واسعة من المدينة. وخلص تحليل لرويترز إلى ظهور دمار على مساحة لا تقل عن 1.8 كيلومتر مربع في الجنينة من 19 أبريل نيسان إلى 29 يونيو حزيران. ويعادل ذلك تقريبا مساحة 250 ملعب كرة قدم.
وأوضحت تقارير صادرة عن منظمات معنية بحقوق الإنسان أنماطا مماثلة من العنف. وقال كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في يوليو تموز، إن مكتبه بدأ التحقيق في الفظائع التي يقال إنها ترتكب في غرب دارفور، بما في ذلك عمليات القتل خارج نطاق القضاء والحرق والنهب.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على اثنين من كبار شخصيات قوات الدعم السريع، أحدهما عبد الرحيم حمدان دقلو نائب قائد القوات. ووصف دقلو القرار الأمريكي بأنه “مجحف” ويستند إلى معلومات “مأخوذة من جهات ضد قوات الدعم السريع”.
كشف حسن زكريا، الذي كان يدير أحد المستشفيين الميدانيين اللذين عملا في الجنينة خلال العنف، عن قائمة بأسماء أكثر من 880 شخصا قال إنهم قتلوا بين 24 أبريل نيسان والتاسع من يونيو حزيران. وقدر الحصيلة الكاملة بأكثر من أربعة آلاف قتيل و10 آلاف جريح على الأقل. وفر أكثر من 290 ألف شخص من المدينة إلى تشاد، بحسب تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وقبل العنف، كان عدد سكان الجنينة نحو نصف مليون نسمة حتى عام 2022، بحسب وكالة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف).
واندلع العنف في دارفور بعد أيام من نشوب الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخرطوم، على بعد نحو 1400 كيلومتر إلى الشرق. بدأ القتال في العاصمة السودانية في 15 أبريل نيسان، بسبب التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع بشأن خطة لدمج قواتهما في إطار مسعى التحول إلى الحكم المدني. وتولى الجيش، ومعه قوات الدعم السريع، السلطة في انقلاب في عام 2021، بعد عامين من الإطاحة بعمر البشير، الدكتاتور الذي حكم البلاد طويلا.
وتعرضت الخرطوم للتدمير بالغارات الجوية والقصف المدفعي واشتبك الجيش مع مقاتلي قوات الدعم السريع الذين اتخذوا مواقع في المنازل والمستشفيات والمدارس. واتهمت جماعات حقوق الإنسان مقاتلي قوات الدعم السريع بارتكاب أعمال نهب واغتصاب على نطاق واسع في العاصمة. وقُتل مئات المدنيين.
وفي ولاية غرب دارفور، التي يسكنها 1.8 مليون شخص، لم يقتصر العنف على الجنينة. وتحدثت رويترز إلى 30 شخصا في بلدات في أنحاء الولاية، وهي إحدى الولايات الخمس في إقليم دارفور.
ووصفوا الاستهداف العرقي الدموي وطردهم من أراضيهم من قبل قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها. وقال الكثيرون منهم إن منازلهم أحرقت وسويت بالأرض. وتظهر صور الأقمار الصناعية لغرب دارفور بقعا محترقة في الأماكن التي أبلغ السكان عن وقوع هجمات بها.
وقالت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن عشرات الآلاف من سكان تلك المناطق فروا إلى تشاد.
وتكشف صور الأقمار الصناعية أيضا كيف اتسع الجزء الشمالي من مقبرة الغابة بشكل ملحوظ في الأسابيع التي تلت اندلاع أعمال العنف بمدينة الجنينة. وتتفق الأرض المرقطة الواضحة للعيان في الصور، مع أخرى من أرض الواقع حصلت عليها رويترز من محام محلي قال إنه شارك في عمليات الدفن. وتظهر تلك الصور العديد من أكوام التربة بنية اللون في المقبرة، وكل واحدة منها مقبرة جماعية قال سكان المدينة إنهم دفنوا بها القتلى.
وقال سلطان المساليت سعد بحر الدين لرويترز “المقبرة مليئة بالجثث… أصلا الموت لم يتوقف”.
وإضافة إلى مقبرة الغابة، تحدث أكثر من 20 شخصا عن ست مقابر أخرى في الجنينة حيث دفنوا موتاهم في قبور جماعية.
وفي صور الأقمار الصناعية التي راجعتها رويترز ظهرت عدة قبور جديدة خلال أعمال العنف في ثلاث من المقابر على الأقل. وفي 13 سبتمبر أيلول، قال رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان إن المنظمة حصلت على تقارير جديرة بالتصديق عن وجود ما لا يقل عن 13 مقبرة جماعية في المدينة والمناطق المحيطة بها.
إرث دارفور الدموي
تعود جذور قوات الدعم السريع إلى أعمال العنف التي عصفت بدارفور أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد ولدت القوة من رحم ميليشيات الجنجويد، وهي كلمة تعني “الشياطين على ظهور الخيل” باللغة العربية، التي سلحها النظام السوداني في ذلك الوقت للمساعدة في سحق انتفاضة متمردين اتهموا الحكومة بإهمال المنطقة.
وشنت الجنجويد هجمات على المدنيين. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2008، قتل 300 ألف شخص، كثيرون منهم بسبب الجوع، وطُرد مليونان من ديارهم. وأعلنت الولايات المتحدة في وقت سابق أن ذلك العنف يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. وفي عام 2007 نُشرت قوة حفظ سلام مشتركة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور.
وكان معظم النازحين من القبائل غير العربية في دارفور، بما في ذلك المساليت. وأجبروا على العيش في مخيمات للنازحين داخليا. وفي الجنينة وحدها دمر الهجوم الأخير العشرات من هذه المخيمات، وفقا لصور الأقمار الصناعية وروايات عشرات السكان الذين هربوا إلى تشاد.
تمثل الجنينة تاريخيا مقر سلطة المساليت. وشكل المساليت، وهم تقليديا مزارعون، أغلبية سكان المدينة ومحيطها حتى أعمال العنف الأخيرة. وينتمي باقي السكان إلى قبائل عربية وجماعات عرقية أخرى غير عربية.
وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، هو أحد أفراد قبيلة الرزيقات العربية الكبيرة، وهي تقليديا شعب من البدو. ويقع المقر الرئيسي للقوة شبه العسكرية في ولاية غرب بمدينة الجنينة.
ومحور أعمال العنف التي ابتليت بها ولاية غرب دارفور التنافس على الأرض والمياه والموارد الشحيحة الأخرى بين المجتمعات الزراعية غير العربية ورعاة الماشية العرب الرحل.
وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 60 بالمئة من سكان ولاية غرب دارفور عانوا من “انعدام الأمن الغذائي” حتى قبل اندلاع أعمال العنف الأخيرة.
ونشبت موجات من الصراعات العرقية في السنوات القليلة الماضية. ولكن لم تكن أي منها طويلة الأمد ومنهجية مثل ما حدث في غرب دارفور من أبريل نيسان إلى منتصف يونيو حزيران. وتقول الأمم المتحدة إنه منذ عام 2019، قُتل مئات من السكان غير العرب في المنطقة في هجمات شنتها قوات الدعم السريع والميليشيات العربية.
وفي عام 2017، وافقت الأمم المتحدة على سحب تدريجي لقوات حفظ السلام. وانتهى تفويض القوة بعد ثلاث سنوات، مما شكَّل نقطة تحول في غرب دارفور.
وحذرت تقارير داخلية للأمم المتحدة، كتبت في عام 2021 وراجعتها رويترز، من مخاطر سحب قوات حفظ السلام. وورد في أحد التقارير أن “إغلاق البعثة وانسحاب أصول الحماية الملموسة” سيخلف “فجوة في الحماية بدارفور”.
ووصف تقرير آخر قوات الدعم السريع بأنها “لاعب رئيسي في الصراع”.
وتصاعد التوتر منذ عام 2019. وأبرم اتفاق سلام في عام 2020 بين الحكومة الانتقالية في السودان والجماعات المتمردة مهد الطريق أمام النازحين من المساليت للعودة إلى أراضيهم التي استولى عليها العرب. لكن تقريرا آخر حذر من أن بعض السكان العرب غير راضين عن الاتفاق.
وقال التقرير “مهاجمة المدنيين المساليت الذين يعيشون في الجنينة أو في مخيمات النازحين في أنحاء المدينة هي وسيلة لإرسال إشارة إلى شعب المساليت بأنهم غير مرحب بهم في المنطقة ولم يعد لهم حق تقليدي في المطالبة بأراض في المنطقة”.
وبعد عامين، تفجرت تلك التوترات.
بداية القتل في حوالي الساعة السابعة من صباح يوم 24 أبريل نيسان، كان بدر الدين عبد الرحمن يستعد لمغادرة منزله عندما سمع دوي طلقات نارية. وعبد الرحمن موظف في منظمة إنسانية دولية في الجنينة وكان يعيش على بعد 400 متر من مقر قوات الدعم السريع. وقال هو وسكان آخرون إن مناوشات اندلعت بين قوات الدعم السريع ووحدة من الجيش السوداني تتمركز في شمال الجنينة.
وروى عبد الرحمن وعشرات الشهود الآخرين، وجميعهم فروا لاحقا إلى تشاد، ما حدث بعد ذلك.
قالوا إن جنود الجيش السوداني انسحبوا بسرعة إلى قاعدتهم في أقصى الطرف الشمالي الشرقي من الجنينة.
ومع انسحابهم، وجهت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية نيران أسلحتها إلى سكان المناطق التي تقطنها أغلبية من المساليت في جنوب المدينة. ووصل بعض رجال الميليشيات العربية، كانت وجوههم محجوبة، على ظهور الخيل أو على دراجات نارية أو على متن سيارات لاند كروزر مغطاة بالطين.
وثار قلق سكان المساليت من تكرار الأعمال العدائية التي استهدفتهم في الماضي. وذكر ستة أشخاص كانوا حاضرين أنه في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، هرع المئات من السكان المساليت إلى مستودعات الأسلحة الخاصة بالشرطة. وفتح رجال الشرطة، وبعضهم من المساليت، الأبواب وسمحوا للحشد بالاستيلاء على الآلاف من بنادق الكلاشنيكوف. وقال خمسة شهود لرويترز إن كبار السن من الرجال ونساء ومراهقين، غير مدربين على استخدام الأسلحة، شوهدوا في الشوارع مسلحين بالبنادق.
وقال ناشط “دخلت مدينه الجنينة في حالة من التجييش والعسكرة الإجبارية لمواجهة بطش المليشيات التي تحاصر المدينة”.
وفي تلك الليلة، تم دفن أولى الجثث في مقبرة الغابة، وتجاوز العدد 50 جثة. وكانت الرغبة عارمة في تكريم جثث الضحايا وفقا للشريعة الإسلامية والعادات المحلية التي تقضي بالدفن بسرعة وباحترام.
وقال حب الدين حسن، وهو ناشط من الجنينة قال إنه دفن العديد من الضحايا في المقبرة، “من العار الشديد والهزيمة النفسية أن يرغم الناس على عدم دفن مواتاهم”
وأضاف “دفن الجثمان هو التعبير الأبلغ عن التبجيل والاحترام للمتوفى”.
ولكن مع وجود القناصين المتربصين والعدد الكبير من القتلى، لم يجد الناجون في معظم الأحيان الوقت للقيام بالأمر بشكل صحيح.
وقال آدم وهو جراح وضع جثمان والده في مقبرة جماعية “كنا نلف الجثامين في الناموسيات أو في البطاطين”. وأضاف “ما كان في فواصل بين الجثث أو وقت أو مساحة”.
ولم يتسن دفن جميع من قتلوا في 24 أبريل نيسان. وقالت فاطمة إدريس، وهي أم لأحد عشر طفلا وتبلغ من العمر 45 عاما، إن رجال الميليشيات اقتحموا منزلها في منطقة الجبل صارخين “أين الرجال؟”.
وقالت إنه بمجرد دخولهم، أطلقوا النار على زوجها وشقيقها وأحد الجيران وأحد الأقارب. وأضافت أن المهاجمين أشاروا إليهم بلفظ “الأنباي”، أي العبيد.
وقالت إنهم أرادوا حرق الجثث. وأمسكت أيدي رجال الميليشيات وناشدتهم عدم فعل بذلك. ونجحت في جر جثة زوجها إلى غرفة نومهما وغطتها.
وقالت إنها كانت عازمة على دفنه، لكن القتال الذي اندلع في الأسابيع التالية جعل الأمر غاية في الخطورة. وفي منتصف يونيو حزيران، هربت إلى تشاد مع أطفالها تاركة جثته في الغرفة وتعهدت بالعودة.
يتيمة ومغتصبة
كما حدث في أعمال العنف عام 2003، أصبح الاغتصاب مجددا سلاحا من أسلحة الحرب في المنطقة. وأجرت رويترز مقابلات مع 11 امرأة وفتاة من المساليت قلن إنهن تعرضن للاغتصاب من مقاتلي قوات الدعم السريع والجنجويد. وقال ثلاثة أشخاص آخرين إنهم شهدوا اغتصاب نساء.
وقال تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش نُشر في 17 أغسطس آب إن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها اغتصبت عشرات النساء والفتيات. وذكر التقرير “يبدو أن المهاجمين استهدفوا الناس لأنهم من عرقية المساليت، وفي بعض الحالات، لأنهم كانوا نشطاء معروفين”.
ووصفت فتاة تبلغ من العمر 15 عاما لرويترز كيف شاهدت قتل أبيها وأمها ثم تعرضها للاغتصاب الجماعي. وكانت تتحدث بجمل قصيرة، متجنبة التواصل البصري، وهي جالسة بجانب أختها الكبيرة في مخيم اللاجئين المترامي الأطراف الذي نشأ في أدري، وهي مدينة على الحدود التشادية السودانية.
وقالت الفتاة إنه في الساعات الأولى من صباح 27 أبريل نيسان، تعرض مخيم النازحين في الجنينة حيث كانت تعيش مع أسرتها للقصف. ثم وصل مقاتلو قوات الدعم السريع والجنجويد سيرا على الأقدام. وجروا والدها إلى الشارع وأطلقوا النار عليه في صدره.
وقالت “والدتي كانت تتوسل لهم يتوقفوا… ضربوها في رقبتها… طشوا (حرقوا) البيت بعد ما كبوا بترول”. وأضافت الفتاة أنها ركضت مذعورة ومعها حوالي 15 شخصا إلى مبنى على الجانب الآخر من الشارع واحتموا به، ليقعوا في أيدي مقاتلي قوات الدعم السريع الذين يحتلون المبنى.
لاحظت خمسة مقاتلين من المجموعة التي قتلت والديها. حبسوها هي وصديقتها في غرفة. وقالت إن الرجال كانوا يرتدون الزي العسكري والقبعات الحمراء الخاصة بقوات الدعم السريع. ولمدة خمس ساعات، تناوبوا على اغتصابها هي وصديقتها.
وسمعت صديقتها تصرخ “اقتلني”. ثم كان هناك طلق ناري.
وقالت الفتاة “لقد دقوها (أطلقوا عليها الرصاص) لأنها كانت ترد. أنا فضلت ساكتة”.
غادر الرجال بعد الاعتداء. قالت “ما قدرت أتحرك”. وبعد ساعات، مر رجل من الحي بعربة وساعدها على الصعود. واصطحبها إلى أطراف المدينة، وفي النهاية شقت طريقها إلى تشاد.
لم تعرف الفتاة إلا الحياة في مخيم النازحين. ومثل كثيرين ممن فروا إلى أدري، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُجبر فيها على ترك منزلها. لقد ولدت في مخيم للنازحين داخليا في كريندق، شرقي الجنينة، بعد أن تعرضت الأسرة لهجوم من قبل الجنجويد في عام 2003 وأجبرت على ترك أرضها، حيث كانت تربي الأبقار والماشية الأخرى. وقالت إن مخيم كريندق تعرض في عام 2019 لهجوم من قوات الدعم السريع والميليشيات العربية وتم إحراق كوخ عائلتها. وبحثت الأسرة عن مأوى في مخيم آخر للنازحين في الجنينة.
وجلست الشقيقة الكبرى للفتاة، وتدعى خديجة (20 عاما)، بجانبها وهي تتحدث، مؤكدة عناصر روايتها. وقالت خديجة إنه عندما وصلت الفتاة إلى أدري، كانت تتألم ولا تزال تنزف من جراء اغتصابها، فأخذتها إلى مستشفى ميداني. لكن خديجة ذكرت أن الأطباء قالوا إنهم لن يتمكنوا إلا من علاج العدد الكبير من الذين وصلوا إلى أدري مصابين بطلقات نارية. وأعطوا الفتاة مسكنات للألم وأبعدوها.
شقيق السلطان
قائد قوات الدعم السريع حميدتي هو تاجر جمال سابق. وتقع قاعدة سلطته في منطقة دارفور، حيث شارك في الصراع الذي اندلع في عام 2003. وانضم إلى الحملة الحكومية في ذلك الوقت لقمع التمرد في دارفور بينما كان في صفوف الجنجويد.
وتحت قيادة حميدتي، تحولت المليشيا في نهاية المطاف إلى قوات الدعم السريع شبه العسكرية، والتي تم الاعتراف بها بموجب القانون قوة أمنية مستقلة في عام 2017. وكان يقدر عدد القوة بنحو 100 ألف قبل بدء الحرب.
والدور الذي لعبه حميدتي في المساعدة في سحق تمرد عام 2003 أكسبه نفوذا وأصبح في نهاية المطاف بمثابة نقطة انطلاق لطموحاته السياسية. وفي عام 2019، بعدما ساعد في الإطاحة بالبشير الذي كان بمثابة الراعي السابق له، أصبح نائبا لرئيس مجلس السيادة. وجعله ذلك ثاني أقوى شخصية في السودان، بعد حليفه آنذاك، قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان. وبعد التنافس على الهيمنة، أصبح حميدتي والبرهان الآن في حالة حرب.
وفي يونيو حزيران من العام الماضي، زار حميدتي الجنينة. وأطلق حمامة بيضاء، كرمز للسلام، في فعالية أعلن خلالها أنه موجود في المدينة للمساعدة في التوسط بين القبائل المختلفة. وأصدر نشطاء المساليت بيانات في ذلك الوقت اتهموا فيها حميدتي بمحاولة إخفاء الفظائع التي ارتكبتها قواته وشراء ولاء زعماء القبائل العربية والميليشيات بالمال والسيارات.
ولم يرد حميدتي على الأسئلة التي أرسلتها رويترز إلى قوات الدعم السريع.
وفي 20 يونيو حزيران من العام الجاري، بعد عدة أيام من انتهاء أعمال العنف، اتهم حميدتي الجيش السوداني بتأجيج الصراع من خلال تسليح القبائل. وفي تعليقات نشرت على صفحة لقوات الدعم السريع على مواقع التواصل الاجتماعي، قال إن عنده دليل على أن الجيش لديه “خطة خبيثة لإشعال الحرب القبلية في دارفور، والجنينة كانت هي البداية”. ولم يقدم حميدتي أي دليل.
وذكر أنه أمر قواته بالبقاء بعيدا عن الصراع في الجنينة. وقال “نترحم على أرواح المواطنين الأبرياء الذين سقطوا جراء الاقتتال القبلي”.
وقال أكثر من 20 شخصا أجرت رويترز مقابلات معهم، بينهم زعماء قبليون من المساليت ومقاتلون ومحامون فروا من الجنينة، إنهم رأوا قادة قوات الدعم السريع وزعماء القبائل العربية يشرفون على الهجوم على المدينة. وذكروا أن ذلك شمل إطلاق قذائف الهاون وقذائف آر.بي.جي على معسكرات النازحين داخليا ومقار حكومية في الجنينة.
ووقعت معارك متفرقة طوال شهر مايو أيار، حيث حاول مقاتلو المساليت، المسلحون ببنادق الكلاشنيكوف، إبعاد قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المسلحة بشكل أفضل منهم. ولجأ الآلاف الذين فروا من مخيمات النازحين التي تعرضت للهجوم إلى حي المدارس بالجنينة، بالقرب من مكتب والي ولاية غرب دارفور، وهو نفسه من المساليت.
وقال ستة من مقاتلي المساليت لرويترز إن نحو ألفي رجل مسلح من المساليت انتشروا في المنطقة وأقاموا حواجز من أكياس الرمل لحماية الذين يحتمون هناك. وكان من بينهم أعضاء في التحالف السوداني، وهو مظلة تضم فصائل مسلحة قاتلت في حروب دارفور الماضية. وذكر الستة أن المقاتلين كانوا تحت قيادة والي غرب دارفور، ولكن تفوقت عليهم قوات الدعم السريع، وفر العديد من المقاتلين لاحقا إلى تشاد.
وبدأت قوات الدعم السريع في إقامة نقاط تفتيش في الشوارع الرئيسية بمدينة الجنينة، ومنعت الناس من المغادرة. وقال نوح الفضيل (30 عاما)، وهو من السكان الذين تمكنوا من الوصول إلى تشاد، “فرضوا حصارا على المدينة، أصبح الخروج والدخول أشبه بالانتحار”. وأضاف “إذا حاول الرجال الخروج، فسيتم قتلهم بالرصاص”.
وبحلول أوائل يونيو حزيران، كانت القوة النارية المتفوقة لقوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها قد تغلبت على مقاتلي المساليت. ودُمر حي المجلس بالمدينة وأحرقت المنازل. وفر العديد من السكان أو قُتلوا. وكان أحد الصامدين طارق بحر الدين، الأخ الأكبر لسلطان المساليت. وكان السلطان، الذي تشمل صلاحياته التوسط في النزاعات بين شعبه، قد فر من منزل الأسرة قبل عدة أسابيع بعد أن تعرض لهجوم من ميليشيات. وكان يختبئ مع أصدقائه في المدينة، ثم هرب فيما بعد إلى تشاد.
وفي الثامن من يونيو حزيران، دخل حوالي 50 من قوات الدعم السريع ومليشيا الجنجويد المجمع الأخضر الذي كان يؤوي السلطان وإخوته وعائلاتهم. وصفت فاطمة، وهي ابنة لبحر الدين، ما حدث في ذلك اليوم. وتعتقد فاطمة أن رجال المليشيات لم يكونوا يعلمون بهوية العائلة. وقالت في مقابلة في أدري إنهم طلبوا معرفة ما إذا كانت الأسرة من “العرب أو المساليت؟”. وأضافت “قلنا له احنا عرب لو قلنا مساليت ما كانوا خلوا ولا واحد عايش”.
كان بحر الدين يمسك المسبحة المفضلة لديه ويلوح بها للرجال الذين يحتلون منزله. وتذكرت فاطمة قوله “هذا سلاحي ما في غيره – آيات الله”.
وقررت الأسرة مغادرة المنزل والانتقال إلى منطقة أكثر أمانا في شمال الجنينة. لكن بحر الدين لن يذهب. وتناولوا ما ستكون وجبتهم الأخيرة معا. وفي الرابعة صباحا يوم التاسع من يونيو حزيران، غادرت الأسرة. ووعدت زوجة بحر الدين، مريم إسماعيل، بالعودة إليه. لكن القناصة في الشوارع المحيطة جعلوا ذلك مستحيلا، على حد قول فاطمة وأفراد آخرين من الأسرة.
وبعد ثلاثة أيام من مغادرتهم، تلقت العائلة نبأ وفاة بحر الدين. قالت مريم إنه ذهب إلى مسجد على الجانب الآخر من الطريق لتناول الطعام. وعرض عليه رجل دين عربي يعرفه مأوى في المسجد وحاول إقناعه بالبقاء. لكن بحر الدين أخبر رجل الدين أنه إذا كان سيموت، فهو يريد أن يموت في منزله، حسب ما قاله رجل الدين لمريم لاحقا. وقالت فاطمة إن بحر الدين قُتل بالرصاص لدى خروجه من المسجد. وعلى مدار الأسبوعين التاليين، ظلت جثته ملقاة في الشارع أمام منزله حيث منعت قوات الدعم السريع والمليشيات العربية الأسرة من دفنه. واصطف القناصة على أسطح المنازل استعدادا لإطلاق النار إذا حاولوا استعادة جثمانه.
وقالت فاطمة والدموع تنهمر على وجهها “الأسرة كلها كانت تشوف جثمان أبي من بعيد ولا تقدر تعمل أي شيء”. ولم تسمح قوات الدعم السريع بنقل جثة بحر الدين إلا بعد انتهاء القتال. وقالت الأسرة إنها طلبت المساعدة من الهلال الأحمر في دفنه.
وأخيرا دُفن بحر الدين في مقبرة الغابة. وقالت الأسرة إنه عندما أحضر العاملون بالهلال الأحمر جثته، أجبرتهم قوات الدعم السريع على دفنه في مقبرة جماعية مع آخرين. وردا على سؤال عن الدور الذي يلعبه الهلال الأحمر، قالت عايدة السيد عبد الله، وهي الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر السوداني، لرويترز إن منظمتها “لا تتحدث عن حالات فردية لاحترام العملية السرية المتعلقة بإدارة (مسألة) جثث القتلى”.
مصيدة الموت
أدت أحداث وقعت في 14 يونيو حزيران إلى مذابح استمرت عدة أيام ووصفها السكان بعبارات مروعة. في ذلك اليوم، أجرى خميس أبكر والي غرب دارفور مقابلة مع قناة الحدث التلفزيونية المملوكة لسعوديين. واتهم قوات الدعم السريع بارتكاب “إبادة جماعية”، قائلا “هذا شعب يقتل بدم بارد”، داعيا إلى “تدخل حاسم من المجتمع الدولي لحماية من تبقى”.
وكان يتحدث وسط دوي إطلاق النار في الخلفية.
وذكرت رويترز في يونيو حزيران نقلا عن مصدرين حكوميين أن أبكر قُتل في اليوم نفسه على أيدي قوات الدعم السريع. وكان المقاتلون الذين قبضوا عليه وقتلوه تحت قيادة عبد الرحمن جمعة، قائد قوات الدعم السريع بغرب دارفور، وذلك حسبما قالت وزارة الخارجية الأمريكية هذا الشهر عندما أعلنت فرض عقوبات على جمعة بسبب قتل الوالي.
وشوهد أبكر بينما جرى اقتياده إلى مكتب جمعة في لقطات نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي.
وبعد ساعات، انتشرت صور جثة أبكر المشوهة على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي لقطات نشرت لاحقا، تسنى سماع هتافات احتفالية في الخلفية بينما تدهس شاحنة جسد الوالي وتلقي نساء الحجارة على الجثة. وقال أحد أقاربه وأربعة من مساعديه لرويترز إن الجثة التي ظهرت في اللقطات هي جثة الوالي.
في رسالة بتاريخ 20 يونيو حزيران على وسائل التواصل الاجتماعي، قال قائد قوات الدعم السريع حميدتي إنه يدين “مقتل” الوالي وتعهد بالتحقيق في الأمر.
وكان مقتل الوالي ضربة لمعنويات آلاف المنتمين للمساليت وغيرهم من السكان غير العرب الذين يحتمون بالقرب من المجمع الحكومي وفي المناطق المحيطة.
وقال عبد الخالق دويدن، وهو مستشار للوالي، إن السكان أصبحوا الآن أمام أحد خيارين. إذ من الممكن أن يتوجهوا إلى قاعدة الجيش السوداني في شمال الجنينة، وهي مقامرة إذ قد تعترضهم قوات الدعم السريع والميليشيات العربية. أو يمكنهم البقاء حيث هم. وكان دويدن معارضا للتوجه إلى القاعدة، قائلا إن الميليشيات العربية “ما عندهم أخلاق”.
لكنهم اختاروا المخاطرة، معتقدين أنهم إذا تمكنوا من الوصول إلى القاعدة قبل شروق الشمس فسيتجنبون المليشيات. وقرابة منتصف ليل 14 يونيو حزيران، بدأ الآلاف في مغادرة المجمع الحكومي وتوجهوا إلى القاعدة، التي تبعد نحو سبعة كيلومترات. واستقلوا السيارات أو امتطوا الحمير أو ساروا على الأقدام. ودفع البعض عربات محملة بالجرحى. وأدى الحجم الهائل للمجموعة إلى إبطاء تقدمها.
ومع انبلاج الفجر، لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى القاعدة وارتفع صوت الأذان عبر مكبرات الصوت في المساجد، واستيقظت قوات الدعم السريع ورجال الميليشيات العربية. وانقض مئات من المقاتلين العرب المسلحين بالرشاشات وبنادق القنص والسكاكين على الحشد، وفقا لدويدن وعشرات الأشخاص الآخرين الذين كانوا موجودين هناك. وقال ما لا يقل عن 30 شخصا في الحشد لرويترز إن مذبحة أعقبت ذلك.
تم حصد الناس بنيران الرشاشات. وسُحق البعض عندما صدم مقاتلو الميليشيات الحشد بمركباتهم. وتعرض آخرون لطعنات رجال الميليشيات المسلحين بالسكاكين. وقال ثلاثة مقاتلين من المساليت كانوا يحملون أسلحة لرويترز إنهم ردوا بإطلاق النار. وأصبحت وئام عز الدين، وهي أخصائية اجتماعية تبلغ من العمر 30 عاما تقول إنها عملت سابقا في جمعية خيرية غربية في الجنينة، محاصرة وسط الحشد في ذلك اليوم. وتقول إنها أمسكت بوالدتها بيد وشقيقتها باليد الأخرى أثناء محاولتهن الهروب من وابل الرصاص. كانت هناك مذابح في كل مكان. وشاهدوا فتاة صغيرة تبكي طلبا للمساعدة بعد إطلاق الرصاص على أمها. وسقطت امرأة أخرى، كان طفلها الرضيع مربوطا إلى ظهرها، بعد أن أصيبت بالرصاص. وترك والدان طفلة صغيرة مصابة بينما كانا يحاولان يائسين حمل باقي أطفالهما المصابين. وقالت وئام “ما قادرة أوصف ليكي اللي شفته، كيف أمشي على الجثث وأنا أجري”.
وفي خضم الفوضى، كان على وئام أن تختار من تساعده. أمسكت بوالدتها التي أصيبت بالرصاص، وكذلك بالرضيع الذي كان لا يزال مربوطا إلى ظهر أمه المقتولة، وأخذتهما إلى منزل قريب. وقالت إنها شاهدت من زاوية المنزل رجال مليشيات عربية يقتحمونه. وأجبروا الشباب الذين كانوا يختبئون في الداخل على الوقوف في صف وأطلقوا النار عليهم وأردوهم قتلى.
وأضافت أن المقاتلين العرب قالوا للشباب “أنتم مساليت قتلتم أهالينا أنتم ملاعين”، ثم أعدموهم.
وحاول البعض الهرب بالتوجه إلى وادي كجا الذي يمر عبر الجنينة، لكنه كان ممتلئا بمياه الأمطار. وقال عشرات كانوا هناك إن كبار السن والأطفال الصغار غرقوا بعد خوضهم في المياه. وقُتل آخرون عندما هاجمهم رجال الميليشيات بنيران البنادق.
وقالت عرفه عبد الشافي، وهي شابة علقت وسط أعمال العنف مع أسرتها “الدم غير لون الماء. الماء تلوث ولونه أصبح أحمر” وقالت إن ابنة أختها غرقت في ذلك اليوم.
وفر الكثيرون من المنطقة ولجأوا إلى مناطق أخرى من المدينة. لكن قوات الدعم السريع والمليشيات العربية واصلت مطاردتهم، وفقا لما ذكره ما لا يقل عن 12 ناجيا.
وقال أسعد أرباب، الناشط الذي يحتفظ بسجلات بالذين قتلوا في مخيمات النازحين داخليا، إنه وجد مأوى مع 200 شخص في مسجد المدينة المنورة بوسط الجنينة. وأضاف أن قوات الدعم السريع والميليشيات العربية اقتحمت باحة المسجد وقتلت أكثر من 30 شخصا. وأضاف أن معظم الناجين تمكنوا من الفرار عبر مخرج آخر.
ومع استمرار الهجمات في 15 يونيو حزيران، قرر الكثيرون أن فرصتهم الوحيدة هي قطع الرحلة التي تمتد 30 كيلومترا إلى تشاد. وتحركوا غربا خارج الجنينة، معظمهم سيرا على الأقدام، وبدأوا مسيرة لمدة ثماني ساعات إلى الحدود. وتبين أنه طريق مميت للكثيرين. وقال أشخاص تم إيقافهم فيه إن قوات الدعم السريع والميليشيات العربية أقامت نقاط تفتيش على الطرق. وتم فصل الرجال عن النساء وإطلاق النار عليهم. وقال ثمانية أشخاص نجوا من الرحلة لرويترز إن الجثث تناثرت على الطرق المؤدية إلى تشاد.
وذكر عشرات الشهود أنه عند نقاط التفتيش، أخذ رجال الميليشيات شابات واغتصبوهن. وقال البعض إنهم شهدوا عمليات الاغتصاب بأنفسهم. وقال آخرون إنهم رأوا نساء يأخذهن مقاتلو الدعم السريع والجنجويد إلى الأدغال. ورجعن والدموع على وجوههن.
وقال قمر خاطر، أحد وجهاء الجنينة البارزين، إن 17 من أفراد أسرته قتلوا، معظمهم بعد وفاة الوالي. واحتفظ خاطر بملاحظات لما شهده هو وآخرون خلال أسابيع العنف. وكتب في إحدى الملاحظات “شاهدت مواقع تواجد الجثث على طول الطريق”. ثم أدرج أسماء خمسة مواقع رأى فيها الجثث أثناء رحلته إلى تشاد. وحمل أحد أقسام ملاحظاته عنوان “طرق قتل القبائل الأفريقية”. وشملت القائمة قذائف الهاون والقناصين والسواطير و”الضرب بعصي غليظة حتى الموت” و”الذبح بالسكاكين”.
وفي تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، قال المدعي العام خان إنه أعطى “تعليمات واضحة” لمكتبه “لإعطاء الأولوية للجرائم ضد الأطفال وجرائم العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي”.
وقالت المحكمة ردا على أسئلة إنها لا تستطيع تقديم تفاصيل بشأن تحقيقها بسبب “السرية” التي تعتبر ضرورية “لحماية نزاهة” تحقيقاتها و”ضمان سلامة وأمن الضحايا”. ولم يوضح متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ما إذا كانت بلاده تبحث فرض المزيد من العقوبات على قادة قوات الدعم السريع. لكنه قال ردا على أسئلة “لن نتردد في استخدام هذه الأدوات للرد على الفظائع وغيرها من الانتهاكات التي يرتكبها أي من الأطراف المتحاربة”. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقدوه في 21 أغسطس آب، نفى زعماء القبائل العربية ارتكاب فظائع. وكانوا جالسين إلى طاولة أمام دبابة. وخلال المؤتمر، أشعلوا النار في علم المساليت.
وقالوا إن المساليت هم “المعتدون”. وأضافوا أن والي الجنينة وأنصاره هم من بدأوا الهجمات، في حين نهب المساليت مراكز الشرطة، واستولوا على آلاف البنادق، واضطر العرب للدفاع عن أنفسهم.
وقال مسار أصيل، زعيم قبيلة الرزيقات “العرب ما رايدين حروب”. وأضاف “لكن والله لو رايدين حرب احنا مستعدين”. تطهير المدينة قال عشرات السكان إن الاتصالات انقطعت في الجنينة خلال معظم فترات العنف، مما جعل من الصعب اطلاع العالم الخارجي على أدلة وقوع الهجمات. واتخذت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية إجراءات أثناء أعمال العنف وبعدها للتغطية على أعمالها.
وذكر كل الأشخاص الذين قابلتهم رويترز تقريبا، وهم أكثر من مئة، أن رجال الميليشيات استولوا على هواتفهم المحمولة في هجومهم على منازلهم أو عند نقاط التفتيش على طول الطريق إلى تشاد.
وقال أكثر من 50 شخصا إن قوات الدعم السريع والمليشيات العربية تطاردان الشخصيات البارزة من المساليت، مثل النشطاء والمحامين والأطباء.
وانتهى القتال في منتصف يونيو حزيران وسيطرت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية على الجنينة بشكل كامل وبدأوا جهود تطهير المدينة. وقال متطوع في الهلال الأحمر إن الجثث المتحللة ملقاة في الشوارع وسط المتعلقات الشخصية للحشود الهاربة ومن بينها بطانيات وأحذية وملابس وأكياس طحين (دقيق) وأدوات مطبخ ووثائق إثبات الهوية. وأضاف المتطوع، وهو مدرس ساعد في جمع الجثث بعد القتال “لم أستطع تحمل رائحة البشر المتحللين أمام منزلي.. أقل شيء يمكن أن نفعله هو دفنهم”.
وقال ثلاثة أشخاص تطوعوا لمساعدة الهلال الأحمر في دفن الجثث بعد القتال إن رجال الميليشيات منعوهم من التقاط الصور أو الاحتفاظ بأي سجل للقتيل.
وذكروا أن قوات الدعم السريع والمليشيات العربية طلبت منهم أيضا عدم مساعدة الجرحى، وأضافوا أنهم شاهدوا قوات الدعم السريع ومقاتلين عربا يطلقون النار على الجرحى.
وقالت عايدة السيد عبد الله، وهي الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر السوداني لرويترز إن موظفي ومتطوعي الهلال الأحمر بذلوا منذ بدء الصراع “كل ما في وسعهم لمساعدة الآخرين في بيئة أمنية شديدة التقلب”.
وأضافت أن خمسة من متطوعي الهلال الأحمر قُتلوا في أول شهر من الصراع في الجنينة وأن فرع المنظمة في المدينة تعرض للنهب والحرق.
وذكرت أن الوضع لا يزال “مليئا بالمخاطر بالنسبة للموظفين والمتطوعين”.
وحاول البعض إسعاف المصابين. وقالت امرأة، وهي تبحث عن أشقائها الثلاثة المفقودين، إنها أخفت رجلا مصابا في موقد خبز داخل منزل في محاولة لإنقاذه. وتركت لافتة حتى تتمكن مجموعة من النشطاء تساعد الجرحى من معرفة أنه في المنزل. وأوضحت أنها لا تعرف ماذا حدث للرجل.
وقال ستة أشخاص لرويترز إنه بناء على تعليمات قوات الدعم السريع وزعماء القبائل العربية، تم تحميل الجثث على الشاحنات ونقلها إلى منطقة في ضواحي الجنينة تسمى التراب الأحمر ودفنها في حفر. واتهمت الأمم المتحدة في 13 يوليو تموز قوات الدعم السريع بأنها أمرت بدفن “ما لا يقل عن 87 من المساليت وآخرين” في مقابر جماعية بالتراب الأحمر.
وذكر فرح يحي، وهو تاجر من الجنينة، أنه شاهد أيضا جثثا ملقاة على مشارف المدينة. وأضاف يحيى أن مقاتلي قوات الدعم السريع والمليشيات العربية الملثمين ألقوا القبض عليه مع عشرة رجال آخرين في 15 يونيو حزيران واحتجزوهم في غرفة بمرفق مياه يستخدم كمركز للاعتقال لمدة ثلاثة أيام بدون طعام أو مياه. وقال “أحضرونا وحبسونا في غرفة وكنا في معاناة شديدة من العطش والجوع، ًوالناس اضطرت شرب بولها، والحمد لله أنا تحكمت في أعصابي ولم أشرب… الناس يبكون ويصرخون… كل هذا لأنهم يريدون الماء والأكل… الناس كانوا يقولون نريد ماء، وهم يردون بعبارة تشربون السم”.
وأردف قائلا “هذا غير ممكن يا جماعة، الإنسان أعطوه ماء يشرب يا جماعة، المشكلة أن هؤلاء مأسورين، كونوا وجدت لديهم سلاح أو شيء مثل هذا يمكن أن تعذبه، لكن أنت تجد شخصا بريئا يمشي في الشارع تقبض عليه وتقوم بتعذيبه بدون أي سبب، ذهبنا وهدمنا منازل ناس دون أن يكون لهم ذنب، تقريبا 6 بيوت كلها هدمناها وتركناها عبارة عن ساحة فقط”.
واصطف خاطفوهم في اليوم الثالث وسألوهم عن انتمائهم القبلي ووعدهم بعدم إيذائهم. ويتذكر يحيى أنهم قالوا “بسم الله، لا تخشى شيئا… ما هي قبيلتك؟”. وقال إن من أجابوا “المساليت” أعدموا. وذكر يحيى أنه كذب فنجا. وقال لخاطفيه إنه ينتمي لقبيلة أخرى غير عربية. ثم أحضره مقاتلو قوات الدعم السريع بينما كانوا يتخلصون من جثث المعدومين. وأضاف يحيى أنهم وضعوا الجثث في شاحنات ونقلوها إلى مشارف المدينة وألقوا بها في حفر. وقال اثنان آخران ممن كانوا في مركز الاعتقال لرويترز إنهما شاهدا أيضا جثثا تُحمل على شاحنات وتنقل خارج المنشأة. وذكر الرجال الثلاثة أن المعتقلين تعرضوا للتعذيب. وقال واحد منهم اسمه صلاح موسى إنه رُبط في شجرة مانجو وعلق من ذراعيه لمدة يومين حتى أنه يجد صعوبة الآن في رفع ذراعيه أو الإمساك بالأشياء.
وقال موسى “في دونكي، 13 ذهبوا بنا وقاموا بتقييدنا وعلقونا على شجرة ويعذبوننا ويسألوننا… أنت ماهي قبيلتك؟ أنا قلت لهم قبيلتي مسلاتي وعذبوني ليومين ونصف… وسألوني من بعض قادة الحركات”. ولا تزال الكدمات واضحة حول كاحليه ومعصميه حيث كان مقيدا.
وقال “وجدنا أمامنا أشخاص مقيدين ومعلقين ثم تم فك وثاقهم وأخذوهم نحو اتجاه الشرق، وبعد أخذهم نحن بقينا يومين ونصف ثم أصبحت أنزف دم من أنفي وفمي، ثم قاموا بإنزالنا وقالوا لنا هيا معنا لنقتلكم… نحن لم نكن قادرين على المشي… تم جرنا حتى وجدنا وادي… وجدنا الخور ووجدنا جثث نفس الناس الذين كانوا معلقين”.
وأضاف “أثناء ما كنت مقيد… لم أكن عايش وطلبنا منهم أن يقتلوننا.. بدلا عن تعذيبنا قلنا لهم أطلقوا علينا النار، لكنهم رفضوا إطلاق النار علينا… الحمد لله ربنا كتب لنا عمر جديد والحمد لله على كل حال والآن وصلنا دولة تشاد وموجودين”.
وذكر يحيى أنه دفع رشوة بعد عدة أيام ليتمكن من الخروج من المركز. وسمح له خاطفوه بالخروج بعدما دفع لهم أقاربه وجيرانه ما يعادل 800 دولار.
وقل “شاهدنا الجثث، لا يقومون برصها، أي جثة يتم جرها ورميها في الحوض، يقومون برميها، وجدوا شخصا حيا يتنفس مع الموتى سألوه ما الذي أتى بك إلى هنا، قال لهم أنا خائف لذلك جلست مع الموتى، فقاموا بضربه برصاص حي وقتلوه في نفس المكان”.
وفي أواخر يونيو حزيران، بعد 58 يوما من تركها جثة زوجها، الذي ذبح في غرفة نومهما، تركت فاطمة إدريس خيمتها في مخيم أدري للاجئين وسارت مسافة 30 كيلومترا للعودة إلى مسقط رأسها.
سافرت فاطمة مع مجموعة من النساء أردن أيضا دفن موتاهن. وأكد اثنتان منهن روايتها.
وعثرت فاطمة على عربة يدوية وضعت داخلها أشلاء زوجها وسارت بها إلى مقابر الغابة.
ومع انتهاء القتال، شرعت في دفنه في وضح النهار. وساعدها أناس آخرون في المقابر على دفن جثته في أحد المدافن الجماعية ثم عادت إلى مخيم أدري. (رويترز)