شهدت الشهور الأخيرة تكثيفًا أمريكيًا لافتًا لطلعات طائرات الاستطلاع من طراز» إم كيو-9» في أجواء اليمن؛ لدرجة أن حركة «أنصار الله» (الحوثيون) أعلنت خلال شهر سبتمبر إسقاط أربع طائرات منها؛ واعترفت واشنطن باثنتين وتداولت أنباء اعترافها بثالثة؛ بل إن اسقاط تلك الطائرات كان في فترات متقاربة؛ ما يعني أن ثمة تحليقًا مكثفًا، وربما يوميًا، للطائرات الأمريكية من هذا الطراز في اليمن؛ ما يدفع للتساؤل: لِمَ تكثف واشنطن من تحليق طائراتها الاستطلاعية في أجواء اليمن على الرغم من إعلان الحوثيين إسقاط 11 منها منذ نوفمبر و15 منذ بدء الحرب في اليمن؟
أول دلالة على هذا هو ما يمكن قراءته في افتقار واشنطن الشديد للمعلومات التي تريدها عما تشهده مناطق سيطرة «أنصار الله»؛ في ظل عجز واشنطن عن تجنيد جواسيس هناك في ظل ما يفرضه «أنصار الله» من سيطرة كاملة على الوضع الأمني، الأمر الذي يجعلها مضطرة لتكثيف طلعات طائرات الاستطلاع والرصد والتجسس.
وعلى الرغم من الاسقاطات المتوالية لهذه الطائرات باهظة الثمن، إلا أن واشنطن مستمرة في إرسالها ما يوحي بمدى ما تشعر به من قلق تجاه «عتمة المعلومات» لديها عن «أنصار الله».
الدلالة الثانية تتمثل في عجز تحالف واشنطن ولندن عن تحقيق تقدم ملموس في ضرباتهما الصاروخية والغارات الجوية ضد أهداف للحوثيين في اليمن؛ فبعد ما يناهز عشرة شهور من عمليات هذا التحالف، فيما تسمى عملية «بوسيدون آرتشر» صار الحوثيون في أوج قوتهم مقارنة بما كان يفترضه هذا التحالف بعد عشرة شهور؛ بل إن مقارنة وضع الحوثيين عند بدء هذه العملية في 12 يناير الماضي بما صاروا إليه اليوم، فإنهم قد صاروا أفضل حالًا بكثير مما كانوا عليه عند بدء تلك العملية؛ إذ ما زالوا يمارسون ما كانوا يمارسونه من عمليات بحرية قبل بدء هجمات التحالف الأمريكي البريطاني، بل لقد توسعت منطقة عملياتهم البحرية وشملت المحيط الهندي والبحر المتوسط وأقاصي البحر العربي، وصارت أكبر وأوسع مما كانت عليه قبل بدء الضربات الصاروخية والغارات الجوية الأمريكية البريطانية؛ بل لقد كشفوا خلال الفترة الماضية عن صواريخ أطول مدى وأكثر قوة، بما فيها صواريخ فرط صوتية، والتي امتلكها الحوثيون قبل الولايات المتحدة نفسها؛ وهو ما يمكن تفسيره بوضوح في عجز تحالف واشنطن ولندن عن تحقيق أهدافه، التي قام من أجلها؛ في دلالة على تفوق قدرات الحوثيين في إخفاء مواقع ومراكز أسلحتهم؛ الأمر الذي لم تحقق معه واشنطن أي تقدم حقيقي، على الرغم مما تعلنه من ضربات تقول إنها تحقق نجاحًا في استهداف منصات إطلاق صواريخ، وغيرها من الأهداف.
وما يُضاعف من قلق واشنطن تواتر إعلانات «أنصار الله» عن أسلحة وصواريخ جديدة، وآخرها صاروخ «قدس 5» المجنح طويل المدى، والذي يتجاوز مداه الألفي كيلومتر، ويمتلك قدرة المناورة والتخفي وتجاوز مستويات مختلفة من الدفاعات الجوية، والذي أعلن عنه المتحدث العسكري للجماعة، يحيى سريع، الأسبوع الماضي في تنفيذ «عملية عسكرية استهدفت مواقع عسكرية في عمق الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة».
إزاء كل ذلك لم تستطع واشنطن إثبات أن الحوثيين تلقوا تلك الصواريخ، التي يعلنون عنها، من إيران أو استهداف مراكز تصنيعها لدى الحوثيين؛ وهو ما يؤشر إلى عامل تفوق الجماعة الأمني، ما أسهم في محاصرة القدرات الاستخباراتية لواشنطن في اليمن، بدليل ما تبديه واشنطن من عجز عن اكتشاف واستهداف المراكز الحساسة في مناطق سيطرة «أنصار الله».
على الرغم من التحليق المكثف لطائراتها الاستطلاعية وتواجد حاملات طائراتها وعدد من المدمرات والمعدات في المنطقة، علاوة على استعانتها بالأقمار الاصطناعية إلا أنها لم تستطع كبح جماح القدرات التسلحية لجماعة «أنصار الله»؛ وكانت المفاجأة ما أعلنت عنه الجماعة في مستهل العام 2024 ممثلًا في امتلاك صواريخ فرط صوتية؛ وهي بذلك كانت ـ كما سبقت الإشارة- قد سبقت الولايات المتحدة، التي لم تعلن حيازة هذه التقنية من الصواريخ إلا قبل شهور قليلة.
كل ذلك يضع واشنطن في مأزق معلوماتي معتم للغاية؛ وما يزيد من مخاوفها هو عجزها عن الحصول على ما تريد من معلومات؛ وهو ما يمكن اعتباره العامل الأهم وراء تكثيف الطلعات الجوية لطائراتها بدون طيار (إم كيو- 9) التي سبق وإن استخدمتها وكالة الاستخبارات الأمريكية في التحليق في أجواء اليمن في فترات سابقة قبل الحرب.
وسبق واستخدمت الولايات المتحدة طائرات بدون طيار (ليس معروفا بالتأكيد إن كان طرازها إم كيو-9) بين عامي 2002 و2021 في استهداف ما قال الأمريكيون إنهم شخصيات قيادية في تنظيم القاعدة الإرهابي بالإضافة إلى تنفيذ 15 غارة بطائرات مأهولة.
وقالت منظمة مواطنة لحقوق الإنسان في تقرير بعنوان «الضحايا المدنيون وفعالية ضربات الدرون الأمريكية في اليمن عن هذه الغارات»: «في عام 2017 قمنا بالتحقيق في ثمان غارات بطائرات بدون طيار وعمليات برية، ووجدنا أن العمليات الأمريكية كانت مسؤولة عن مقتل ما لا يقل عن 32 مدنياً ـ بينهم 16 طفلاً وست نساء ـ وجرح عشرة آخرين، بينهم خمسة أطفال».
ويمكن لطراز «إم كيو- 9» والتي تكلف حوالي 30 مليون دولار لكل منها، أن تطير على ارتفاعات تصل إلى 50000 قدم (15240 مترًا) ولديها قدرة تحمل تصل إلى 24 ساعة قبل الحاجة إلى الهبوط. وقد حلقت الطائرات من قبل الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية فوق اليمن لسنوات، وفق وكالة «إسوشيتد برس».
وأعلن الحوثيون خلال إسقاط طائرة في 7 سبتمبر في أجواء محافظة مأرب، وثانية في 10 سبتمبر في أجواء محافظة صعدة، ثالثة في 16 سبتمبر في أجواء محافظة ذمار، ورابعة في 30 منه في أجواء محافظة صعدة.
ووفق وسائل إعلام تابعة للحوثيين فقد أسقطت قواتهم أول طائرة من ذات النوع منذ بدء إسنادهم لغزة في 8 نوفمبر الماضي، في أجواء المياه الإقليمية، والثانية في 19 فبراير في أجواء محافظة الحديدة غربي البلاد، والثالثة في 26 أبريل في أجواء محافظة صعدة شمال، والرابعة في 16 مايو في أجواء محافظة مأرب شمال شرق، والخامسة في 21 مايو في أجواء محافظة البيضاء وسط، والسادسة في 29 مايو في أجواء محافظة مأرب، والسابعة في 4 أغسطس في أجواء محافظة صعدة، والثامنة في 7 سبتمبر في أجواء محافظة مأرب، والتاسعة في 10 سبتمبر في أجواء محافظة صعدة، والعاشرة في 16 سبتمبر في أجواء محافظة ذمار/ والحادية عشرة في 30 سبتمبر.
وجميعها تم إسقاطها بصواريخ «أرض- جو» محلي الصنع، وفق بيانات المتحدث العسكري يحيى سريع.
واعترفت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» بإسقاط الحوثيين بعض هذه الطائرات.
وتعد طائرة «إم كيو- ناين»مسيرة هجومية غير مأهولة وقاذفة للصواريخ بجانب قدراتها في الرصد والمراقبة والاستطلاع والاستشعار والتجسس. وتبلغ سرعتها 240 كيلومترا في الساعة. ويبلغ مدى تحليقها 3 آلاف كيلومتر. وسبق واُستخدمت في حربي أفغانستان والعراق وغيرها من الحروب.