أجمل ما قرأت اليوم، صفحتان لا أكثر من كتاب "قبل أن تغيب الشمس" للدكتور علي حرب، المثقف الإنسان، العربي اللبناني، صاحب الرؤية الثاقبة الملهِمة، الطائر المهاجر في كندا، دولة المهاجرين وفق وصفه البديع.
نعم، كلمات من نار ونور، رحيق عُمر، من التهجير والمنافي واللوعة والحنين، صفحات كل سطر فيها سِفر حياة، أفكار ملهمة، دعوة صادقة لبني قومه كي ينفضوا عن كاهلهم وذهنهم غبار الأزمنة والمعتقدات الخاطئة، إذا ما أرادوا الاندماج والتأثير في أوطانهم الجديدة المانحة لهم الحرية والفرصة والمواطنة، وهذه مفاهيم فشلت في تحقيقها الدول وليس الأوطان التي هُجِّر منها أهلها عنوة بحثًا عن حياة ومستقر .
أصدقكم القول، ومهما كتبت فلن أنصف مؤلف الكتاب الذي خبر الاغتراب، وذاق مرارته، لكنه يفرِّق بين اغتراب واغتراب؛ اغتراب يستنزف عمرك في معارك خاسرة، وفي مواجهات وممانعات لا فائدة ترجى منها، وبين اغتراب يمنحك وطنًا وكرامة وحياة تزهو بها وتفخر. إنَّه كمن يضع يده على جرح مزمن استعصى علاجه.
لا أطيل عليكم، سأترككم مع تلك الجواهر الثمينة الناقدة لحالتنا العربية عمومًا، فهو لم يكتب عن لبنان بلده الذي ثلاثة أضعاف سكانه مهاجرون في الشتات - ١٢ مليون نسمة، وفق آخر إحصاءات - وإنما أجزم أنه كتب عن أكثر من ٤٠٠ مليون عربي.
نعم، فما من مواطن عربي إلا ويعاني صنوف القهر والاغتراب في أوطانه الأصلية. وما كان لهذه المجتمعات العربية أن تعيش في كنف فقر وتخلف واستبداد وقهر لولا اختزال أوطانها بِحُكَّام ودول، فكل دولة عبارة عن سلطان وسطوة وجبروت، وكل عربي من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر حالم في فضاءات من الحرية والعدالة والمواطنة.
فإلى الدولة والوطن من منظور مؤلف الكتاب: 'الدولة متغيرة دوما وهي عبارة عن معاملات، والوطن ثابت لا يزول مهما تغيرت الدول .. الوطن كامن في داخلك، تحمله كما تحمل عمرك ودمك".
"أما الدولة فهي خارجة عنك، طارئة عليك ولا تسكنك، لأنها موكلة بحماية الوطن وأهله، ورعاية مصالحه ومصالحهم. الدولة لا تمنحك هويتها، لكنها تمنحك هوية الوطن".
"الوطن بالتعريف والمصطلح الجغرافي والسياسي هو الكيان الجغرافي، ماء ويابسة، بحدوده المعترف بها دوليا، والذي يحتضن شعبًا وتاريخًا وتراثًا، وله علمه ورمزه ونشيده وجيشه ونظامه السياسي ومؤسساته وسلطانه".
"والوطن بالتعريف الإنساني هو مسقط رأس المرء وصانع انتمائه وولائه وهويته ومخزن ذكرياته ومجال حياته ومآل رفاته. الوطن جوهر ثابت".
"لا أرمي إلى تقزيم الدولة والحكومة، إنما أقصد إعادة الاعتبار إلى مفهوم الوطن الذي أخشى أن تكون السياسة قد أغرَقته بأنوائها العاتية، من جانب، ودفاعًا عن براءة الوطن الذي يحمِّله البعض - ربما من غير قصد - تبعات ما اقترفته الحكومات من مآس بحقوق شعوبها، وتحديدًا ما يخص العرب واللبنانيين، ودفعتهم قسرًا للبحث عن منافذ الخلاص في المهاجر والمغتربات، من جانب آخر".
"الدولة لا تهبك الشعور بالفخر والاعتزاز والكبر، وإن فعلت فإلى حين، لكن الوطن هو الذي يفعل هذا. الدولة لا تُدرج أصولك في سجلات المواطنة، إنما الوطن هو الذي يفعل ذلك، وتبقى أنت دومًا وأبدًا، وأينما حللت أو رحلت، كنديًا من أصل لبناني، أو أمريكيًا من أصل لبناني، الوطن هو الأصل والنسب".
"الدولة هي التي تغدق مزايا وألقاب الآلهة على رجالاتها، من صاحب الجلالة والفخامة إلى صاحب الدولة والسيادة العطوفة والزعامة، فيما الوطن يشرّف جميع أبنائه فيساويهم باسم المواطن، ولا لقب فوقه أو دونه".
"تقول الحكمة السياسية: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. إنها حقيقة الحكم والدولة والسياسة. إنما الأوطان تتجاوز هذه الحكمة، لأنها تدوم وتصل إلى الجميع، جيلا بعد جيل، وعلى مدى آلاف السنين، لأنها تقوم على معادلة إنسانية خالصة بين التاريخ والجغرافيا والناس الذين يصنعون باستقرارهم حضارتهم وتراثهم وثقافتهم وقيمهم المشتركة".
"الوطن ليس الدولة بل هو أبو الدول، بسياسييها وسياستها، الوطن مكانه القلب والوجدان والضمير، فيما الدولة والسياسة موجودتان خارج هذه المناطق الدافئة والحميمة"..
"الوطن لجميع أبنائه، حقوقًا وواجبات، وعلى رجال الدولة أن يطبقوا هذا المبدأ بالقسطاس والعدل، وهنا - هنا تحديدًا - مقتل الدولة أو نجاتها، فإن نجحت ارتفعت مع الوطن والمواطنين، وإن فشلت سقطت ورمت مواطنيها في أتون القهر والظلم، وألجأتهم حتمًا إلى الهجرة أو اللجوء أو الانتحار في لجج التهجير غير الشرعي".
"عندما نتظلَّم فإننا نرفع شكوانا ضد الدولة والحكومة والنظام وليس ضد الوطن، وعندما نحصد العاصفة فإننا نلعن من زرع الريح، وليس الأرض التي أنبتتها".
"وعندما نبذل أرواحنا ودماءنا فداء في وجه الغزاة والمعتدين فإننا نقدّمها بعزّة وفخر عربون وفاء وتضحية من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحُكم".
"وعندما نبتعد فإن ما نعانيه من حرقة الشوق، ولوعة الحنين يكون من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحُكم. وعندما نتغنى بجيشنا فلأنهم حماة الوطن وحدوده وتاريخه وسيادته وليسوا جند الدولة، ومن خرج للقتال في غير هذه الأهداف فإنه يُسجَّل في خانات العملاء والمرتزقة.
وعندما نصدح بالنشيد الوطني فإننا نعبر عن اعتزازنا وفخرنا وولائنا لوطننا وعلمنا وليس الدولة. الوطن كبير وماجد مهما صغرت مساحته، والدولة تكبر وتصغر بمساحة إنجازها للوطن"..
وللحديث بقية عن "وطن الغربة".
محمد علي محسن