علي الحميدي الترياق
علي الحميدي الترياق

إنه ليس غبيًا، ألا تراه يلبس ربطة عنق حمراء؟

حين تفقد الأشياء جوهرها وتضمحل الحقيقة في يباب الزيف، لا أعلم كيف اضمحلت، ذابت ذوبان مكعب ثلج في صيف شديد الحرارة.

 

لم أفهم كيف للبشر أن تقبلوا الكذبة تلو الأخرى برحابة صدر، كيف لم يميزوها؟ هل كانوا معصوبي العيون يلعبون الغميضة مثلًا؟

لا، لا، لا، بل وقفت الكذبة الضخمة أمامهم كأنها عمود يثبت السماء أن تميد.

كيف للكذبة أن تقف؟ كيف للكذبة أن تبدو أنيقة؟ كيف لها أن تمشط شعرها؟ هل هي شيء له حجم وشكل ولون مثلنا؟

 

ربما نعم.

لكن متى؟ وكيف؟

عندما يختفي العالم والأستاذ في ثيابه الممزقة المهترئة كنعامة مذعورة في الصحراء،

عندما يبلغ الحال به أن يحبس نفسه في زاوية الغرفة، ليس لأنه ارتكب جريمة فظيعة، بل لأنه لا يملك ثمنًا ليشتري له قميصًا، لأنه يستحي أن يخرج بسروال مثقوب من كل مكان، كأنما أمطرته الشهب عندما كان يجف في الليل.

 

أعلم أنه لا ضير في أن يخرج العالم أو الأستاذ في ثياب ممزقة حقيرة، لأن قيمته تكمن في عقله وعلمه.

ولكن كيف لهذا العالم أو الأستاذ أن يوصل المعلومة لطلابه أن هذا الشخص الذي عبر بموكب من المصفحات والعربات والعسكر المدججين بالسلاح، غبي وفاشل ولا يصلح لشيء؟

كيف يقنعهم أن ذلك الشخص الذي يمشي أمامهم ويرتدي قميصًا أبيض يضعه من تحت، وتتدلى بدلة القضاء السوداء فوق سرواله الأسود اللامع، ويحتزم بحزام فضي له وهج ساطع، يحمل حقيبة دبلوماسية أنيقة في يده، واليد الأخرى تمسك هاتف آيفون نزل للتو، ربما اسمه منحوت على الهاتف من الشركة نفسها...

 

كيف له أن يقول لهم إن هذا بليد، أجوف، جاهل، لا يعي شيئًا؟

وكأني أسمع الطلاب يصرخون في وجه المعلم:

أتقول عن هذا غبي؟ ألا ترى أنه يحمل هاتف آيفون، وبدلته ماركة إيطالية عالمية، وعطره من أفخم العطور الفرنسية؟

سيقولون للمعلم: ألا تشم رائحة العطر، كيف تفوح في الشارع الذي عبر منه؟

 

لا، مستحيل، هذا ليس غبيًا!

إنه ليس غبيًا، ألا تراه يلبس ربطة عنق حمراء؟

عم، سيقولون ذلك لأنهم لا يعلمون شيئًا، مغيبون عن الوعي، وهم في حالة بين التيه والضياع.

 

فلا هم ضائعون ليبحثوا عن طريق العودة، ولا هم موجودون ليبحثوا عن الحقيقة، حالة نادرة من الضياع والتيه.

 

سيكون قدوة لأنه يحمل آيفون.

 

لأنهم لا يعلمون ولا يريدون أن يعلموا أنه ذاهب إلى منصة المحكمة ويمسك بمطرقته التي لا يطرق بها الحديد، بل يحطم بها رجالًا، ويهدم بها بيوتًا عامرة بأهلها، ويسجن بها شيوخ دين ودكاترة ومهندسين.

 

ليس لأنهم أخطأوا، بل لأنهم على صواب ويقولون الحقيقة.

لم أعلم أن الحقيقة أصبحت جريمة يُعاقب عليها، وقد يُعدم كقاتل.

بل إن القاتل له نسبة كبيرة في العيش، وقد ربما سامح أهل الضحية ونجا من القصاص.

أما من يقول الحقيقة فالموت محتوم، مؤكد، لا نجاة منه.

لا يعلمون أنه لم يدرس ولم يفتح كتابًا، بل فتح حساب تيك توك، لا يعلمون أنه لم يقلب صفحة كتاب، لكنه يقلب صفحات الفيسبوك يبحث عن نكتة مضحكة لأنه يشعر بالضجر بعد وجبة عشاء دسمة.

 

لا يعلمون أنه لم يمشِ في طريق لنجدة طفل أو مسكين، لكنه يركض مئات الأمتار كي ينقص قليلًا من كرشه المتدلي أمامه.

 

لا يعلمون أنه يشرب أقراص الفوّار، ليس لأنه يعاني من كثرة الإجهاد في القضايا، بل لأنه يخاف أن يصاب بتخمة، لذلك يشرب أقراص الفوّار لأنه يعلم أنها وجبة يصعب على المعدة هضمها دون مساعدة.

 

مثل ذلك المشرد الذي حصل على وجبة بسيطة، يأكل حتى يشبع لأنه يعلم أنه ربما لن تأتي وجبة أخرى إلا يومًا آخر. هذا يتحسب الجوع وهذا يتحسب التخمة. 

 

ليتهم يعلمون أن هذا الطفل الذي يحمل حقيبته المليئة بالكتب، التي تعادل نصف وزنه، وهو بالكاد يجرها كفرس صغير يجر عربة ثقيلة، بثيابه الباهتة التي ورثها كقطعة أرض عن أخيه الذي يعولهم... إنه أفضل منه، لأنه يمشي في الطريق الصحيح، وإن كان شاقًا ومتعبًا.

وصاحب الآيفون يمشي في الطريق الخاطئ، مزهوًا بفشله وغبائه.