قبل عقود كتب الدبلوماسي الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر في مذكراته «حينما تتدخل أمريكا في أزمة، فهي لا تسعى إلى الحل، وإنما تسعى لإمساك كافة الخيوط وإدارة الأزمة بصورة تخدم مصالحها حول العالم».
تذكرت ما ذكره كيسنجر حينما طالعت أحدث كتب عالم اللغويات الأمريكي ناعوم تشومسكي «أسطورة المُثل الأمريكية: كيف تهدد السياسة الخارجية الأمريكية العالم».
وجاء هذا الكتاب الذي تشارك في إعداده مع تشومسكي الكاتب الأمريكي ناثان جيه روبنسون، ليضع من جديد السياسة الخارجية للقطب الأوحد في مرمى السهام، لاسيما في ظل اشتعال الكثير من البؤر الساخنة على الخريطة العالمية.
◄ السياسة الأمريكية
الكتاب الذي صدر قبل أسابيع بجانب كونه يتحدث عن السياسة الأمريكية التي تطال معظم أرجاء العالم، فإنه يحظى بقيمة أخرى لا تقل أهيمه، تتمثل في هوية الكاتب وهو ناعوم تشومسكي الذي يعد أحد أبرز الكتاب الأمريكيين «انصافا» للعرب في مواجهة إسرائيل، واهتماما بقضايا الشرق الأوسط.
◄ ديمقراطية قتل الملايين
كما يوحي العنوان يركز الكتاب على تفنيد الادعاءات، بأن السياسة الخارجية الأميركية تسترشد بمبادئ سامية مثل: الديمقراطية والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان. هذه التبريرات المليئة بالتفاخر تجد صدى واسعًا، حيث يتم تكرارها بلا توقف من قبل السياسيين والمفكرين المؤيدين للمؤسسة الحاكمة الأمريكية، وفق مقال مطول في مجلة«فورين بوليسي» الأمريكية.
◄ إبادة ضد السكان الأصليين
غير أن هذه الادعاءات بالنسبة إلى تشومسكي وروبنسون، لا تعدو كونها «هراء»، ليس فليس لأن الجمهورية الأمريكية الشابة نفذت «مصيرها الواضح» من خلال شن حملة إبادة ضد السكان الأصليين، بل إنها دعمت منذ ذلك الحين العديد من الأنظمة الديكتاتورية، وتدخلت لإفشال العمليات الديمقراطية في العديد من الدول، وشنت أو دعمت حروبًا أسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص في مختلف أنحاء العالم. كل ذلك بينما كانت تدعي زورًا أنها تدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمبادئ السامية الأخرى.
وفي سياق استعراض المجلة الأمريكية لما ورد في الكتاب، يرى تشومسكي وروبنسون «المسؤولون الأميركيون لا يترددون في إدانة الآخرين عندما ينتهكون القانون الدولي، لكنهم يرفضون الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومعاهدة قانون البحار، والعديد من الاتفاقيات العالمية الأخرى».
◄ أفعال شريرة
كما أنهم لا يترددون في انتهاك ميثاق الأمم المتحدة بأنفسهم، كما فعل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عندما خاض حربًا ضد صربيا في عام 1999، أو كما فعل الرئيس جورج بوش الابن عندما غزا العراق في عام 2003.
وحتى عندما تُكشف أفعال شريرة لا يمكن إنكارها - مثل مذبحة ماي لاي، والتجاوزات في سجن أبو غريب، وبرنامج تعذيب وكالة الاستخبارات المركزية - فإنه يتم معاقبة الموظفين ذوي الرتب المنخفضة، بينما يبقى مهندسو هذه السياسات أعضاء محترمين في المؤسسة الحاكمة.
◄ السياسة تخدم على المصالح التجارية
وسعى الكاتبان إلى شرح أسباب تصرف المسؤولين الأميركيين بهذه الطريقة، ويبررا ذلك بأن «دور العامة في اتخاذ القرارات محدود»، وأن «السياسة الخارجية تُصمم وتنفذ من قبل مجموعات صغيرة تستمد قوتها من مصادر محلية».
بمعنى أكثر وضوحا وفق رأيهما فإن السياسة الخارجية الأمريكية هي في الغالب خادمة للمصالح التجارية - المجمع الصناعي العسكري، شركات الطاقة، والشركات الكبرى، البنوك، الشركات الاستثمارية، وأن المفكرين الذين يوجهون هذه السياسات، ينفذون أوامر أولئك الذين يمتلكون، ويديرون الإمبراطوريات الخاصة التي تحكم معظم جوانب حياتهم.
يعترف تشومسكي وروبنسون أيضًا بأن القوى العظمى الأخرى تصرفت بطريقة مشابهة جدًا لما فعلته الولايات المتحدة، وأن هذه الدول أيضًا اختلقت تبريرات أخلاقية معقدة - مثل «عبء الرجل الأبيض»، و«الرسالة الحضارية»، و«ضرورة حماية الاشتراكية» - لتغطية سلوكها الوحشي.
ويمضي الكاتبان نحو التأكيد على أن المسؤولين الأميركيين شديدي اللامبالاة: فهم يدركون أنهم يفعلون أشياء سيئة لأسباب أنانية بحتة، ولا يهتمون كثيرًا بالعواقب على الآخرين. لكن الكثير منهم، بلا شك، يعتقدون أن ما يفعلونه هو أمر جيد لكل من الولايات المتحدة والعالم، وأن ممارسة السياسة الخارجية تنطوي حتمًا على مفاضلات مؤلمة.
◄ السطو على سلطات الكونغرس «أسطورة المثال الأميركي» تطرح لغزًا جوهرياً: لماذا يتحمل الأميركيون السياسات التي تكون مكلفة، وغالبًا ما تكون غير ناجحة، وأخلاقيًا مروعة؟ وتأتي إجابة الكاتبين في جزئين. أولًا: المواطنون العاديون يفتقرون إلى الآليات السياسية التي تسمح لهم بتشكيل السياسات، لأن الكونغرس سمح للرؤساء بالاستيلاء على سلطاته الدستورية بشأن إعلان الحرب، وإخفاء كل أنواع الأفعال المشكوك فيها تحت ستار عميق من السرية.
ثانيًا: تعمل المؤسسات الحكومية بشكل مفرط على «صناعة القبول» من خلال تصنيف المعلومات، وملاحقة المسرّبين، والكذب على الجمهور، ورفض تحمل المسؤولية حتى عندما تسوء الأمور أو يتم الكشف عن سوء التصرف. وتعزز هذه الجهود وسائل الإعلام التي تتسم بالامتثال عمومًا، والتي تكرر نقاط الحديث الحكومية دون نقد، وتشكك نادرًا في السرد الرسمي. ما سبق يقصد من ورائه تشومسكي وروبنسون أنه إذا فهم المزيد من الأمريكيين ما تفعله حكومتهم، فإنهم سيرفعون أصواتهم ويطالبون بالتغيير.
لماذا لا يتصدى المنافسون لأمريكا؟
آراء كاتبي المقال رغم أنها تتطابق مع هوى كثير من السياسيين ومسؤولي حكومات دول عدة حول العالم، إلا أن المجلة الأمريكية في معرض عرضها للكاتب، ساقت رأيا قد يتوافق مع هوى الداخل الأمريكي.
وتساءلت المجلة الأمريكية العريقة، إذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية تشكل تهديدًا للعالم «كما يعلن العنوان الفرعي لهذا الكتاب»، فلماذا لا تحاول المزيد من الدول إيقافها؟
وتدلل المجلة الأمريكية على ذلك، بأن واشنطن تواجه العديد من الخصوم الجادين في الوقت الراهن، ورغم ذلك لا تزال تحتفظ بالكثير من الحلفاء المخلصين والمتحمسين.
وتمضي بالقول: «قد يكون بعض شركائها انتهازيين، أو ربما خائفين من القوة الهائلة للولايات المتحدة، لكن ليس كل قائد مؤيد لأمريكا هو مجرد أداة مطيعة أو متعاون يتصرف وفقًا لمصالحه الذاتية».
◄ الطبيعة القمعية للقوة الأمريكية
وتُظهر الاستطلاعات العالمية وفق المجلة الأمريكية دعمًا وإعجابًا مثيرا بالولايات المتحدة، على الرغم من أن شعوب بعض المناطق «مثل الشرق الأوسط» غاضبة بعمق وبشكل مبرر مما تفعله أمريكا. كما أن صورة الولايات المتحدة العالمية أظهرت مرونة ملحوظة في الماضي: فقد انخفضت بشكل حاد خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن، ثم تعافت بسرعة فور انتخاب باراك أوباما.
ومن وجهة نظر «فورين بوليسي»، فإنقلق العديد من دول العالم ليس في الطبيعة القمعية للقوة الأمريكية، بل في احتمال سحب هذه القوة. صحيح أن تشومسكي وروبنسون على صواب في أن الولايات المتحدة ارتكبت العديد من الأخطاء على مدار القرن الماضي، لكن لا بد أن تكون قد فعلت بعض الأمور بشكل صحيح أيضًا.
أخبار اليوم المصرية