محمد علي محسن
محمد علي محسن

الزعيم الذي اغتال اليمن ..

للذين يتباكون على عهد مَن وصفوه ظلمًا ونفاقًا بـ"الزعيم"، أسألهم: أحالنا الآن صنيعة مَن بالضبط؟ الشيطان لا يتكلم، لكن شروره بادية للعيان.

 

هذه خلاصة ثُلث قرن من الإدارة بـالأزمات والصراعات والانقسامات والولاءات الشخصية غير الوطنية ، وغير النزيهة. 

الرجل مات ونريد طيّ صفحته سعيًا لدولة يمنية عادلة، لكنهم يُجبروننا أن نتكلم ولا نصمت، أن نقول لهم: كُفُّوا عن الإطناب في عهدٍ نحسبه وَرَّثَ لنا هذا الخراب والتمزق والكوارث المُشاهَدَة .

 

كان الرئيس صالح بارعًا في الكذب والخداع، مُستلهمًا وصايا ميكافيللي لحاكم فلورنسا ، لورنزو دي ميديتشي: "كُن أسدًا وثعلبًا في آنٍ واحد ، أسدًا بمخالب وأنياب للفتك بفرائس تهدد سلطانك، وثعلبًا ماكرًا لا يستلزمه أكثر من فخ وشراك للإيقاع بـالفرائس الشاردة".

 

كان داهيةً بـعقلية الثعلب في تفكيك خصومه واستقطاب الرؤوس المؤثرة، وكان بارعًا جدًّا في تـحكمه بـكل خيوط ومقاليد السلطة، ما مَكَّنَهُ من البقاء رئيسًا للجمهورية مدة نيفٍ وثلاثة عقود. 

وبقدر براعته وذكائه، كان شخصًا فاسدًا وأنانيًّا. فلو أنه وظف ملكاته في بناء اليمن ورخاء شعبها، لربما كانت البلاد والعباد في وضعية أفضل من هذه الحالة.

 

للأسف وظَّفَ براعته وذكائه في الهدم بدلًا من البناء، فكانت الحصيلة ما نراه الآن من واقع يَصْعُبُ على الكافر. لقد خسر سلطته وروحه، وخسرنا وطنًا ودولةً ووحدةً وتنميةً واستقرارًا.

 

أتساءل دائمًا: ما كان ضُرُّهُ إن أذعن وَسَلَّمَ السلطة لخلفه الذي اختاره نائبًا له ووافق على تولِّيَته منصبه؟ خانه ذكاؤه عندما تحالف مع جماعة طائفية سلالية تخوض معركة ثأرية لمقتل الحسين منذ ألف وأربعمائة عام، فكيف بدم الشقيق حسين الذي لم يجفَّ بعد؟؟

 

لكنها السلطة المطلقة، وشهوتها القاتلة . فحين يستأثر الحاكم بكل أدوات الدولة، ولفترة طويلة، يَحْسِبُ ذاته إلهًا. فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، تُحيلُ الأذكياء إلى أغبياء، وتُصَيِّرُ الأقوياء والطغاة ضعفاء وخائفين لا يفقهون غير البطش والقتل والانتقام.

 

كان في متناوله صنع مجدٍ لذاته وعترته وأنصاره، لكنه أبى ذلك لـمرات عدة. فضَّل السلطة على ما سواها من تاريخ ومكسب وخلود في ذاكرة اليمنيين.

 

لا أَتذكرُ كم هي الخطابات التي قال فيها: إن السلطة مَغْرَمٌ وليس مَغْنَمًا ، وإن مَن يحكم اليمن كالجالس على كرسي تحوم حوله الثعابين.

 كذب زمنًا على البسطاء وعلى أتباعه المُغَفَّلين. والكذب حين يكون أداة الحاكم، يصير لغةً، ومهنةً، ووظيفةً. الحاكم لا يحتاج للكذب. ما من كذب يُعْمِرُ وطنًا، الذي يُعْمِرُهُ الصدق والإخلاص والوفاء..

 

غالبًا ما أُسالُ ذاتي: كيف أنه ترك الجنوب يَغلي في غليانه طوال تلك الأعوام، دون إدراك كَوْنِهِ المسؤول الأول دون سواه؟

 

كان بمقدوره محاصرة وإطفاء ذلكم البركان في مهده بقليل من التنازلات وإرضاء القادة، وهم أغلبهم عسكريون، ولا تزيد مطالبهم عن ترقية أو بقعة أرض أو منصب ووجاهةٍ تعيد لهم اعتبارهم المفقود. 

وهذا ما أثبته الأعوام المنصرمة، فمن حمل راية القضية الجنوبية في الأغلب فقدوا وظائفهم أو مرتباتهم أو عقاراتهم أو وجاهاتهم .

 

وعندما اندلعت ثورات المحتجين في أكثر من مكان ومساحة وبلد عربي، أراد الرئيس صالح إثبات أنه مختلف عن الرؤساء مبارك وبن علي والقذافي.

 

ظل يُنخرُ ويُخَرِّبُ كل جهد، وكل فرصة وقرار صادر عن السلطة الانتقالية. وعندما شارفت هذه السلطة على إنهاء المهمة الشاقة والصعبة، فأبى إلا أن ينحاز للمليشيات، فسلَّم رقبته وجيشه ودولته لجماعة مليشياوية طائفية.

 

والنتيجة أنه نجح في إثبات أن اليمن بلادٌ مختلفة كليًّا عن مصر وليبيا وتونس وسوريا، بل وعن أي بلد وشعب آخر . 

والحقيقة المُرَّةُ التي لا تُعْجِبُ أنصاره: أن الدولة في اليمن موجودة فقط في مخيلة العوام، أنها مجرد سلطة من ورق البنكنوت، استأثر بها شخص عليل استهوته مظاهر البذخ والسطوة والثروة والنفاق، فغرقت دولته وتهاوت في أتون حرب وأزمات قَضَتْ على آمال وتطلعات اليمنيين التواقين للتغيير.

 

صَدَّعَ رؤوسنا بخطبه عن الجمهورية والوحدة والديمقراطية، وفي المحصلة لا جمهورية ولا وحدة ولا ديمقراطية. 

الجمهورية ذبحها قربانًا للإمامة ، والوحدة وَأَدَها غدرًا وَأَهَالَ التراب عليها، والديمقراطية أكلها بيديه وشدقيه مُنذُ أول ممارسة لها عند صناديق الاقتراع.

 

هنالك آلاف القرائن والبراهين المُثْبَتَةُ عليه. لا أحد من أقاربه أو أنصاره يمكنه تَقَبُّلُ أنه أهان اليمن واليمنيين، خذلهم، قادهم بعقلية الأئمة الفاسدين. بل أُجَزِمُ أن أيًّا من الأئمة قَدَرَ له نهب موارد البلد واستثمارها في بناء الذات والأقارب والموالين المخلصين.

 

وحين أَزِفَتْ لحظة النهاية، هرب إلى سِنْحَانَ القرية حيث حصنه المنيع "عَفَاشٌ" المزوَّد بمختلف أنواع السلاح. ترك مسكنه في صنعاء وترسانة أسلحته فيه هدية لمليشيات آتية من كهوف الثأر والانتقام.

 

في إحدى خطبه بعد الإطاحة بالرئيس هادي، كشف فيها عن وجه كان مخفيًّا، وروح شريرة لم يعرفها الناس، قال متبجحًا: "اطمئنوا، عمُّكم "علي" لديه مخازن أسلحة تُحاربونَ بها مئة سنة! طِخُوهم ، اقتلوهم أين وجدتموهم ؟!" كأنه يتحدث عن شعب آخر، بل عن لعبة "زومبي".

 

وَاصِفًا خلفه بأنه لديه مناعة ضد الفهم.. وإن الـواحد ليتعجب ويسأل: ألم يكن نائبه طوال ربع قرن؟ وألم يُسَلِّمْهُ السلطة والعلم في حفلة خداع وتضليل ؟! 

 

مثلما نَكَثَ بـالبيض ورفاقه حين لجأ إلى الشيخ عبدالله طالبًا منه وحزبه القيام بالواجب حيال القادة الجنوبيين؟ وعندما وقع وثيقة العهد والاتفاق في الأردن، وبعد هزيمة شركائه الموقعين، وصفها بوثيقة العار. 

فكيف لرئيس يقبل التوقيع على وثيقة عار ؟! في إحدى مُهاتفاته لنجل مجاهد أبو شارب، قال بـكل وقاحة ونذالة: "قل للواء الجائفي - قائد قوات الاحتياط حينئذٍ، رحمه الله -: لن يَنْفَعَهُ صاحبُ أَبْيَنَ'، والله لا أَمْسَحُهُ من على الأرض !".

 

تخيلوا لو أن الوحدة اليمنية تحققت في أزمنة الرؤساء السَّلَّالِ أو الإرياني أو الحَمْدِيِّ ، فهل كان أعظمُ منجزٍ وحلمٍ لليمنيين بِـهذه السوءة وهذا التشوه والعبث؟؟

 

دَعُوكُمْ من العاطفة القاتلة، لنتحدث بصدق وأمانة: علي عبد الله صالح تَسَبَّبَ في كل هذا الدمار والخراب. إِنَّنا نتحدث عن رئيس اسْتَحْكَمَ بكافة سلطات الدولة.

 

في النهار رئيسًا مدنيًّا بـجاكيت وكرافاتة فاخرة أمام عدسات كاميرات الصحافة، وقائدًا عسكريًّا يُناوِبُ في غرفة العمليات مساءً.

 

أعطته السلطة مغانم ومكاسب كثيرة. مَن يُصَدِّقُ أن الضابط الهزيل البنية في مِفْرَقِ المخاء سيصير أغنى أَغْنِيَاءِ البلد؟ كل مَن حكموا اليمن شماله وجنوبه قبل صالح هم في عداد الفقراء. 

أول رئيس عَدَّ خزينة البنك المركزي ضمن أملاكه الشخصية. وزع، وأنفق، واشترى، ونهب بـلا حسيب أو رقيب. فحتى الملوك ذوي الحكم المطلق لم تَسْنَحْ لهم فرصة الإثراء من المال العام؛ لأنهم لا يستطيعون العبث بسبب القوانين أو السلطات القضائية أو الرقابية على إنفاق المال العام.

 

أثناءَ ثورة فبراير، سُئل أحد المنشقين عنه: كيف حكم واستحكم بـمقاليد السلطة كل هذا الوقت؟ أجاب مُستخدِمًا أصابعه: "بـنقود البنك المركزي قَدَّرَ له حفظ سلطانه". 

لـبلوتارخُ قوله الشهير: " يستطيعُ الحاكم - وأي حاكم - أن يُدَمِّرَ حرية وكرامة أي شعب، وذلك من خلال فتح باب الهبات والعطايا والمنح".

 

الرئيس السَّلَّالُ ضحية لتمسكه وانحيازه للدولة. ولكن كانت هناك نخبةٌ ومشايخُ قبيلة ومذهب لم تَسْتَطِبِ العيش في كنف نظام ودولة. استقطاب لم يسلم منه مناضلون بحجم النعمان والزبيري، حَشَدُوا وَأَعْلَنُوا النفير على السَّلَّالِ والجيش المصري، فيما الباعث الحقيقي هو أن العاصمة وجوارها وفضاءها ضَاقَتْ بفكرة الدولة.

 

جاء المناهضون لـلسَّلَّالِ والوجود المصري بـالقاضي الإرياني ، فكان ضحية القوى القبلية والدينية . كانت خطيئته الاستعانة بالرجعي على الثوري، وبالمشايخ على القادة، وبالقبيلة والمذهب على الجيش والأمن، فكان ولا بد من أن يُزَاحَ ويُقَالَ ويغادر إلى منفاه الاختياري بـسوريا. 

 

الرئيس إبراهيم الحَمْدِيُّ ، قُدِّرَ له الوقوف في وجه هذه القوى. انحاز للدولة والنظام، وخلال ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر فرض الدولة والنظام . درب شائك وخطر، لكنه من أجل الشعب، وفي سبيل ترسيخ قيم ونظم الدولة المفقودة منذ زمن أسلافه الرؤساء.

 

الجنرال فرانكو، في خواتيم حياته السياسية، أعاد جمهورية إسبانيا إلى أحضان الملكية. استقرت البلاد باستقرار الحكم، وعرفت الديمقراطية والتعددية وحريات الصحافة.

 

مُنِحَ الجنرال أوسمة وأنواط شرف ومجد، نُصِبَتْ في الساحات تماثيل لـلجنرال. لكنه لم يَدُمْ طويلًا. الكذب والتضليل لا يدومان. تمَّ اقتلاع تمثال الديكتاتور من أهم ساحة في مدريد، وأعلنت البلدية أن العاصمة نظيفة من الطغاة. 

وفي تشيلي، ظل الديكتاتور بينوشيه منفيًّا إلى أن مات. وعندما أرادوا نقل رفاته إلى وطنه، ضاقت مساحة تشيلي بـرَمْسِه. الشعب لم ينسَ جريمته بـحق الرئيس المنتخب ديمقراطيًّا سلفادور أليندي . الجنرال السفاح لم يَغْتَال فقط الرئيس عام 1973م، وإنما اغتال أحلام شعبه .

 

اغتيل صالح هاربًا ووحيدًا ، ذلك أنه خسر الجميع بتعامله بعقلية الزير سالم الثأرية الانتقامية ، لا بعقلية الملك كُليب الفارس الموحد لشتات القبائل . 

كانت نهاية الزير قتلا وغدرا في الصحراء وبسيوف غلمانه المرافقين له منتهى يليق بشخص باعثه رغبة الثأر لشقيقه ، لا سعيًا لفكرة توحيد القوم . 

وكانت نهاية صالح مماثلة لأنه أراد الإنتقام ، رافضًا قبول فكرة انتقال السلطة إلى خلفه ، فمات غدرا ووحيدا وواقعا في شر أعماله .. 

 

الكذب زائل طال الزمن أو قَصُرَ ، لن يبقى إلا الصدق والإخلاص والوفاء. فكل حاكم مقترن بـأثره، وصاحب السيرة الوطنية النزيهة هو مَن تبقى ذكراه طيبة وخالدة..

 

 

محمد علي محسن