في ظل التّحديات العالمية والأزمات التي تطاول العالم في يومنا هذا، ألقت مجلة "لوبوان" الفرنسية الضوء على تأثيرات وباء كورونا، لا سيما على القوى العالمية، مشيرة إلى عالم ناشئ يشهد أقطاباً متعددة وعدم استقرار وتغيراً ملحوظاً في التسلسل الهرمي للقوة بين أميركا وآسيا وأوروبا.
فإلى جانب الأزمات الاقتصادية المنهجية والحروب الكبرى، تساهم الأوبئة في تغيير مجرى التاريخ، على غرار الطاعون الذي قضى على رجل الدولة اليوناني بريكليس في بدايات حرب بيلوبونيز، ما أفسد الاستراتيجيا الذي وضعها الأخير لإلحاق الهزيمة بالاسبرطيين وغيرها من الأمثلة.
وفي وقت شكلت قيادة الولايات المتحدة ونظام 1945 ضمانة للعالم، ظهرت هشاشة الدولة في الهجمات الإرهابية التي استهدفتها عام 2001، وسلسلة الحروب الضائعة في أفغانستان وسوريا والعراق، وانهيار اقتصاد الفقاعة عام 2008، إلى جانب فشل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السيطرة على الأزمة الحالية.
تاريخ عالمي مشترك
ومن خلال الأبعاد العالمية للوباء وفتكه وغموضه، طبع الأخير بداية التاريخ العالمي، وأظهر الترابط العميق بين الأفراد والمجتمعات والأمم، مثبتاً حقيقة أنَّ الأخطار العالمية قادرة على إعادة هيكلة الأقطاب الإقليمية الرئيسية.
وفي وقت أحدث الوباء ثورة رقمية ضخمة، جاء بمصدر توتر أساسي في النظام الدولي الذي بات يتخبط بين تصاعد التهديدات العالمية من جهة، وتراجع الأمم وتباعدها عن بعضها من جهة أخرى.
ولا تزال الحرب الباردة قائمة بين الولايات المتحدة والصين، وتشمل الأهداف المشتركة امتلاك التقنيات الرقمية ووسائلها، وإنشاء شبكتين تهيمن شركات "غافا" الأميركية على الأولى و"بيغ براذر" الصينية على الثانية.
وفي النتيجة، يبدو العالم الناشئ متعدد القطب وخطيراً وغير مستقر إلى حد كبير، كما أنَّه يبتعد عن الهيمنة الغربية. وفي المقابل، يتجه مركز الرأسمالية والتجارة إلى آسيا.
ومع الوقت، تشكك الصين أكثر فأكثر بالتقدم التكنولوجي الأميركي. وتشهد الولايات المتحدة نمواً طفيفاً ولامساواة متفاقمة، إلى جانب الانقسامات الداخلية التي أتت بها نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والخلافات الخارجية التي برزت بعدما حوّل ترامب حلفاءه الأوروبيين إلى خصوم. وتزامن ذلك مع تمزق الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا، والفجوة الكبرى بين شمال منطقة اليورو وجنوبها، والمعارضة بين شرق القارة وغربها حول الديموقراطية غير الليبرالية.
وبعيداً من إثبات دول الغرب نفسها على الصعيد العالمي، شهدت تراجعاً ملحوظاً وباتت مهددة من المنظمات الجهادية التي تواصل نشاطها من أفريقيا إلى إندونيسيا، مشكلة شبكة إلكترونية مرعبة داخل المجتمعات المتقدمة والأنظمة الديكتاتورية التي تطمح الى الهيمنة الإقليمية والعالمية ومن بينها الصين في آسيا والعالم الناشئ، وروسيا في الشرق الأوسط وأوروبا، وتركيا في المتوسط والقوقاز.
إلى ذلك، عادت النزعة القومية والتعصب الطائفي لتغذية العنف، وباتا يهددان بظهور نزاعات مسلحة بين القوى العالمية الكبرى.
وفي المقابل، بدأت وسائل تنظيم العنف واحتوائه تختفي، لا سيما في ظل تراجع الولايات المتحدة وتخليها عن موقعها المهيمن بعد تفكك قوتها الناعمة في عهد ترامب. أما الصين، فتشكل قوة صاعدة، إلا أنَّ مشروعها بقيادة العالم مع حلول 2024، يعود فقط إلى رغبتها في الهيمنة، من دون أخذ الحرية والسلام والاستقرار بعين الاعتبار.
التباعد بين الفائزين والخاسرين
أظهر وباء كورونا اختباراً قاسياً للأمم ومؤسساتها وقياداتها، وأدى تفشيه إلى إعادة هيكلة التسلسل الهرمي للقوى العالمية في القرن الحادي والعشرين وفقاً لقدرة كل منها على السيطرة على الأزمة الصحية والاقتصادية.
وأظهرت الصين التي كانت رغبتها في إخفاء الفيروس سبباً في تفشي الوباء نجاحاً بارزاً في التغلب عليه، وكانت القوة الكبرى الوحيدة التي نجحت في تحقيق نمو إيجابي بنسبة 1,8 في المئة عام 2020، وستسجل في أواخر عام 2021 ارتفاعاً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة حوالي 10 في المئة، مقارنة مع أواخر عام 2019، إلى جانب سعيها إلى تخفيض انبعاثات الكربون إلى الصفر مع حلول عام 2060.
وفي النتيجة، تستفيد بكين من الفجوة في الديموقراطيات وتراجع الولايات المتحدة على الساحة العالمية، لتحقيق توسع شامل على الصعيدين العسكري والاقتصادي.
أميركا وأوروبا
أما الولايات المتحدة وأوروبا والقوى الناشئة، فتعتبر حتى الساعة من بين الخاسرين، لا سيما أنَّ الولايات المتحدة شهدت التفشي الأخطر للوباء بالرغم من تخصيص نسبة 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لقطاع الصحة. وبالرغم من إمكاناتها الحتمية في حصر التراجع في النمو بنسبة 3,7 في المئة عام 2020، لن تنجح في استعادة المعدلات التي سجلتها عام 2019 قبل حلول عام 2021، لا سيما أنَّ الدولة تشهد انقساماً لا سابق له منذ الحرب الأهلية الأميركية.
ويبدو الوضع أسوأ في أوروبا التي لا تزال عاجزة عن السيطرة على الوباء بالرغم من الإجراءات التي تقيد الحركة والحرية. ووصل تراجع النمو في منطقة اليورو إلى 7,5 في المئة، وسيترافق مع ارتفاع البطالة بنسبة 8,5 في المئة من القوة العاملة، وارتفاع هائل في الدين العام من 85 إلى 105 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولن تعود أوروبا إلى المعدلات التي سجلتها عام 2019 قبل أواخر 2022 أو حتى 2023.
وفي الوقت عينه، تبقى الأخيرة الهدف الأول للجهاديين، نظراً لتاريخها والوجود الكثيف للمسلمين على أراضيها.
تركيا
أما تركيا، فتتنقل من جبهة إلى أخرى ومن بينها سوريا وليبيا وكراباخ وشرق المتوسط حيث تنتهك سيادة اليونان وقبرص بهدف فرض نفوذها في المنطقة تحت لواء إيديولوجيا "الوطن الأزرق". ومع ذلك، تتخبط الدولة في الداخل في ظل انتشار الوباء وتدهور الاقتصاد بنسبة 5 في المئة عام 2020، وارتفاع نسبة بطالة لتصل إلى 17,4 في المئة من القوة العاملة. إلى ذلك، لامس التضخم المالي نسبة 12 في المئة، وخسرت الليرة التركية ثلث قيمتها، ووصل العجز إلى 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي والدين العام إلى 60 في المئة.
وبدورها، تواجه روسيا تفشياً خطراً للوباء، وتشهد تراجعاً في النمو بنسبة 6 في المئة.
السنة المفصلية
وتبقى الحرية السياسية التحدي الأكبر في القرن الحادي والعشرين، في وقت لا تظهر المواجهة بين الأنظمة الديموقراطية والأنظمة القديمة التي برزت في القرن التاسع عشر ولا الأنظمة التوتاليتارية التي ظهرت في القرن العشرين، بل مع الأنظمة الديكتاتورية التي تتدعي الديموقراطية والمنظمات الجهادية.
التحديات العالمية
وفي النتيجة، ألقى وباء كورونا الضوء على هشاشة الدول والقارات وضعفها. وتبين أنَّ دول العالم جميعها ومن بينها الولايات المتحدة، لا تتمتع وحدها بالقدرة الكافية لمواجهة التحديات العالمية.
وفي الوقت الراهن، تواجه الأنظمة الديموقراطية الوضع ذاته الذي ظهر عام 1945. وبالتالي، يقع على عاتقها العمل على إعادة بناء نظام رأسمالي مستقر وشامل لمواجهة اقتصاد الفقاعة، وتوجيه الثورة الرقمية والإيكولوجية المزدوجة، والتوحد في وضع استراتيجية راسخة لمواجهة الأنظمة الديكتاتورية الديموقراطية ومن بينها الصينية والروسية والتركية، فضلاً عن نزع سلاح من الجماعات الجهادية.
وأخيراً، يبقى مستقبل القرن مجهولاً حتى الساعة، ومصير العالم متعلقاً بقدرة الولايات المتحدة وأوروبا على السيطرة ليس فقط على وباء كورونا، بل على الشعبوية التي تهيمن عليها، بهدف التمكن من العودة إلى قيم الحرية والعقل والمسؤولية التي تنسجم مع مستقبل الغرب.
...قال توكفيل إن " الحرية الا تعيش بدون أخلاق ولا أخلاق بدون إيمان". إن مواطني الديموقراطيات هم الذين سيقررون في نهاية المطاف مصير القرن الحادي والعشرين وما إذا كانوا سيخسرون بشكل دائم أو يستعيدون إيمانهم بالحرية.