ذات ليلة صيفية من شهر آب البديع ، كنتُ عائدًا من متنزَّة البحر الأسود ، بمدينة أوديسا ، وفي منتصف الطريق سمعت أصواتًا شجية صادحة من ثنايا أشجار كثيفة . المكان كان مظلمًا وموحشًا ، لكنني تجاسرت ومضيت خلف قلبي ، ودونما أصغي لعقلي ، أو لنبضات الخوف الناقرة لعظام صدري .
ما شدَّني وجعلني أتبع قلبي هو ان المُغنِّي والمُغنِّية كانا ينشدان بأغنية هندية شهيرة ( نسونا) ، فلم أصدِّق أن في هذه البلاد أُناس يتغنُّون بأغاني الأفلام الهندية . شوق جارف دفعني بقوة إلى حيثما طيور الكناري ترسل صوتها إلى الفضاء ، مبددة عُتمة الظلام ، وكأنها تُغنِّي للنجوم والشجر ، وباصواتها تفتح السماء ، لتنير دروب العاشقين التائهين . تسلَّلت السياج الحديدي ، مشيتُ متتبعًا تلك الأصوات الرقراقة ، إلى أن أقتربت منها ، وصرت أمشي خلف الثلاثة ، مبتهجًا ومرددًا معهم بصوت خافت ، الكلمة السحرية ( نسونا ) ، فتاة بسني عمري ، بمعية شخصين ناضجين . ما أن لمحني أحدهم ، حتَّى توقفوا عن الغناء لبرهة ، نظروا فيَّ بدهشة ممزوجة بالفرحة ، وسرعان ما دعوني لمشاركتهم الغناء ، سألني الرجل : أنت من الهند ؟! فأجبته : أنا ابن عم الهنود ، نحن وإياهم عائلة واحدة ".
أخذوا يرقصون بجذل ونشوة ، ملامحهم تشبه ملامح الهنود الذين نشاهدهم بالأفلام ، وقعت عيني على الفتاة ، كانت جميلة وفاتنة ، سلبتني لبابي ، كنتُ مستعدًا لفعل اي شيء كي اظفر بقلب هذه الحورية الهابطة من الفردوس ، - وايضًا - كي أثبت لهم أننا من بلاد واحدة . أخذت اسرد لهم اسماء المُمثِّلين الهُنود ، وبعد أن لمحت ابتسامة الفتاة مضيئة للدُّجى البهيم ، رحت أقصُّ عليهم قصصًا من رأسي ، قلتُ لهم أن " اميتاب باتشان " صديقي ، و ' دار مندرة ' تزوج جارتنا الحسناء " هيما ماليني " .
كانت رائحة الخمر منبعثة من المغنِّي والمغنِّية ، وبشكل لا يُطاق ، وعندما هممنا بمغادرة الحديقة ، همست الفتاة في أذني : أسمي " كاتيا " ، وهنا زادت حماستي ، أخذت ارقص مثل بطل فيلم " disco dancer " قلت لها : وانا اسمي أحمد ، وننطقها بالهندي " احمد هيه " .
أمسكت " كاتيا " بيدي ، فكانت كافية كي أمضي خلفها ككلب طائع لسيده ، وعندما رأى والدها ابنته وهي ممسكة بوثاقي ، أوقف سيارة أجرة ، صعدنا أربعتنا ، الأب بجوار السائق ، وانا وقعت وسطا بين الأم وأبنتها ، وأثنا مضينا في شوارع المدينة ، استأنفا الأبوين يصدحان بذات الأغنية الأسرة لقلوب العشَّاق . وكلما رأتني الأم منسجمًا مع " كاتيا " شدَّتني ناحيتها ، بل ووضعت خدها بملاصقة شفتاي ، كنتُ أقول لها : مله عيب ، مش قدَّام زوجك وبنتك يا مكسورة الناموس " .
وتارة اتأمَّل في وجه " كاتيا " علَّها تنقذني ، توقف تطفُّل والدتها ، إذ لا دين ولا ملِّة ولا عقل يقبل ما تفعله في فتى عاشق ولهان في ابنتها . هذه التصرفات العبثية خيِّل لي أنها بتأثير مفعول الجرعة الزائدة من المشروب ، والأغرب أن " كاتيا " الساحرة وقفت تضحك وتتفرج على تصرفات أمُّها ، حتى أنني بدأت اشك بوجود قرابة بينهم الثلاثة . قلت مخاطبًا كاتيا : مله عيب يا حبيبتي ، بجاه القبيلة والقرابة والأرومة اوقفي أمُّك ، أفعلي مثلما تفعل أي دجاجة تغار على ديكها " .
وصلنا الحي الكائن في أقصى المدينة ، راودني شعورًا بالخوف والجزع ، لكنني طمأنت نفسي ، فطالما الفتاة ممسكة بيدي ، فلنذهب الى الجحيم . نزلنا في قبو أسفل أحد الجسور ، باب حديدي مقفل بسلسلة ، هبطنا من عالم الأساطير إلى عالم المساطيل ، غرفة فسيحة بها مجموعة أسرِّة موزعة في مواضع عدة، بهو كئيب يشبه ثكنة السجون في بلادنا . أول ما دلفنا أصدر الأب صفيرًا ، وإذا بالمكان يعج بالفتيان والفتيات والشيوخ والنساء ، غادروا جحورهم المظلمة ، والتفوا حولنا بسرعة البرق ، مشهد كنتُ اراه فقط في معسكرات الجيش . جميعهم راحوا محدِّقين بهذا الضيف الغريب ، عذرًا ، بالعاشق الهندي ، وهنا قال الأب : رحبوا بالضيف " احمد هيه "، فصرخوا جميعًا النشيد الوطني الخاص بهم : يا احمد هيه ، يا احمد هيه ، جائعون .. نريد خبزًا ، دجاجًا مشويًا ، عصيرًا ، فاكهة " ، لأول مرة بحياتي أصغي لجوعى يتشرَّطون لحمًا مشويًا ..
وازاء هذا الموقف ، وكرمًا لضحكة كاتيا : أخرجت خمسين روبل - في ذاك الوقت توازي ثلثي مرتب جنرال - وأشرت على أحد الفتيان كي يجلب لهم ما طلبوه ، فكلها مجابة ، وأوامرهم مطاعة . خطف الفتى الورقة النقدية وطار مثل جنِّي سليمان وعاد حاملًا قنينتي " فودكا " إلى جوار ثلاث حبَّات دجاج مشوي وبعض العصائر . قلت : يا لهذه المصيبة ، ويا لودافة يهودي إلى حضرة !! . نسوا جوعهم ومطلبهم ، أتوا بطاولة رثة ، وبدأوا ليلتهم الحمراء ، وبصحة احمد هيه ، أخذوا يرفعون كؤوسهم ، ويصبُّونها في جوفهم ، وبعد كل جرعة يزفرون مثلما نزفر عند أكل البسباس الحار .
كأس يتبع كأس إلى أن ذهبت عقولهم تمامًا ؛ فانتقلوا إلى طور من الجنون ، أخذوا يهذون ، ويرقصون ، ويتعاركون ، العجوز كان يرمقني بعينين يتطاير منهما الشرر ، كان يحاول الوصول إلي ، فيمنعه أحدهم فتنشب معركة عنيفة بين الأثنين ، فلم تهمد إلَّا بسقوط الكهل بالضربة القاضية .
كانت لغتهم غريبة ، لا تشبه الهندية او المنغولية أو اي لغة معروفة ، وبعد ان شاهدت العجوز واقعًا على الأرض والدم ينز من فمه وأنفه ، قلت ل 'كاتيا " : لماذا ينظر إلي هكذا وماذا يريد بالضبط ؟! . أشارت خجلة إلى معطفي ، فقلت منتشيًا : لأجل عينيك الساحرتين ، خذيه هدية للعجوز ، المهم يكف عن ملاحقتي بعينيه المخيفتين ". وحين خلعت المعطف الأنيق ، قامت القيامة ، فكل واحد منهم اراده لنفسه ، ومن كان نائمًا استيقظ ، وأضحت الغرفة حلبة مصارعة حُرَّة ، أخذوا يقذفون كل ما وقع بيدهم ، من كؤوس ومواعين وقناني الزجاج ، واحدة من الضربات الحُرَّة أطفأت وهج المصباح ، ففقدت وجه ' كاتيا ' في حلكة الظلام ، ناديت عليها فلم أسمع غير أنين الضحايا وصرخات المُسعفين ..
تحسست الجدار بروية وحذر ، وكلص مذعور بلغت البوابة الحديدية ، بالكاد نفذت بجلدي ، صعدت درجات القبو إلى الشارع المهجور ، مشيت لمسافة مبتعدًا عن المكان وإذا بالسماء تهدي إلي سائق طيب ، رآني فتوقف ، سألني باستغراب : ماذا تفعل في حي الغجر ؟ صُعقت من سؤاله ، ومع صدمتي أجبته بصدق وخجل : لم أعلم أنَّ في هذه البلاد ناس فوق وناس تحت " .
كان برد ما قبل الفجر ينخر عظامي ، نظرت إلى قدمي الحافيتين ، فلم اتمالك نفسي ، ضحكت ضحكة تشبه النواح ، صرخت هازئًا : آه منكم يا غجر ، أخذتم من عمري ليلة ، سلبتوني نقودي ومعطفي وحذائي .. آه منك يا ' كاتيا ' الغجرية فلم يبق لي منك غير بقايا نعومة في يدي ، ورائحة ذكية في أنفي ..
محمد علي محسن