كلما وقعت عيني على صورة أو لافتة تُمجِّد هذا الرئيس أو القائد أو ذاك ، تعود بي الذاكرة إلى تلك اللافتة الإعلانية الضخمة لفخامة الرئيس " صالح " وكانت تتربع قلب الطريق ، لتستقبل زوار عدن بعبارةٍ ظلَّت وقتًا محل تندر وقدح : "قبلك عَدَم وبعدك نَدَم".
أربعة كلمات بقت زمنًا موضع سخرية ونقد، بل واستفزازٍ للمشاعر . أما اليوم، فقد طواها النسيان، لتحل محلها لافتاتٌ مستفزة للذوق والعقل ، وحتى البطون الجائعة .
شعارات وكتابات مُبجِّلة لزعامات من ورق ، فحيثما وليت وجهك لا تعثر إلَّا على فائض من القُبح المؤذي للحواس ، ومن الانتهاك الفظ لجمال الأمكنة ، ومن طغيان التفاهة والعصبية والنفاق .
وأتذكر - أيضًا - كيف طُلِبَ من "صندوق النظافة والتحسين" في الضالع ، في ذروة ازدهاره، عمل مجسمًا رخاميًا لفخامته وهو يرفع علم الوحدة منفردًا، دون شريكه "علي البيض".
ووُضِعَ المجسم في واجهة مبنى المحافظة. اعترضتُ ناصحًا بإيقاف هذا الهدر للمال على مظهرٍ ترفي، قلتُ لهم: "أخشى أن يأتي يومٌ يُكسَّر فيه هذا المبنى بسبب المُجسَّم". لم تكن سوى كلماتٍ ساخطة ممزوجةٍ بمزح ، لكن المنافقين رأوا فيها جريمةً لا تُغتفر ..
السيناريو المتشائم الذي توقعته لم يحدث. فالمُجسَّم لم يُصَب بأيدٍ بشرية، بل نالته قوى الطبيعة: الشمس والمطر والريح.
والمأساة أن مبنى المحافظة الحديث دُمِّرَ بقصف طيران التحالف، والغريب أن الدمار شمل كل طوابقه الخمسة، بينما بقي المجسم الرخامي قائمًا وحده، كأنه سخرية من القدر.
قبل فترة، قابلت صديقًا قريبًا من أصحاب النفوذ، وجدته يشكو ضعف حاله وقلة حيلته، فنصحته بتنظيم ورشة أو ندوة أو حتى مؤتمر.
قلت له:المهم أن يكون العنوان بارزًا وعريضًا ومثيرًا، كما فعلت صحيفة "الجمهورية" صبيحة إعلان فوز الرئيس الأسبق في انتخابات 2006: "وهزم الأحزاب وحده".
وأشرت عليه بأن يضع صورة ضخمة للقائد الرمز على جدار كامل، وعلى الجدار الآخر يعلّق العلم، ثم يكتب على لافتة عريضة: "لن نقول لك كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: امض بنا أين شئت إنا معك مقاتلون".
وعلى ذكر الندوات، أتذكر أن صحيفة "22 مايو" الناطقة باسم المؤتمر الشعبي العام في عدن، نظمت ندوة بعنوان "طلبة الله.. كم لي وكم لك"، وجمعت كبار القادة المدنيين والعسكريين، بل والوزراء والمحافظين.
وكان عنوان الندوة مستفزًا:"قراءة في فكر الرئيس علي عبد الله صالح". وقد حدَّثني أحدهم أنهم وقفوا عند بوابة القاعة، وعندما حان وقت الدخول، قال محافظ أحد المحافظات مازحًا: "هل في رأسه فكر حتى نقرأه؟!"
يا قادة اليوم .. افهموا واتعضوا ممن سبقوكم ، فلو أن النفاق والكذب والمزايدة تأكل عيشًا أو تبني مجدًا وتاريخًا ؛ لما كان مآل من سبقكم القتل أو المنفى أو السجن .
ولو كان التملق يبني وطنًا، لما وصل بنا الحال إلى ما نحن فيه، ولما قامت ثورة، ولما اشتعلت حرب، ولما رحل أو اغتيل أو قُتل من سبقكم من الزعماء.
فهل من عظةٍ تعيها العقول؟ أم سنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة،حيثما تعلو الصور والزعامات ، وتهوي الأوطان ، ويُسحق الإنسان ؟
محمد علي محسن





