في البدء مشائخ لعشائر وأفخاذ وقبائل ، فزادتهم الثورة والصراعات رتبة وترقية فصاروا مشائخا وضباطا ، وعندما استولوا على المالية والضرائب والجمارك والسلاح والسجن صاروا تجارا وضباطا ومشائخا .
ومن حين سيطرة هذا الثالوث ، المشائخ ، والعسكر والتجار ، ومن سار في فلكهم واستفاد منهم ، على جمهورية سبتمبر ؛ واليمنيون مثل جمل المعصرة ، في ذات الدائرة وبلا كلل أو ملل ، لقد وقفوا سدًا منيعًا في وجه الدولة اليمنية .
حتى الثوار الأحرار مثل الزبيري والنعمان زُجا بهما في معركة مناهضة للدولة ومؤسساتها وأن بدعوى استعادة الوطنية اليمنية ، ورفض التبعية للمصريين ووجودهم .
المشير السلال ، الرجل النزيه ، تم التخلص منه، بما حمله من قيم ومبادئ ثورية قومية ، وبعده رحل المصريين ، وتم القتل والتنكيل بشركاء مقاومة حصار السبعين ، وبذلك استولوا على الجمهورية ، وأحالوها إلى غنيمة يتقسامون ذهبها ويتركون عظامها وفضلاتها للشعب .
هذا الثالوث ظل مهيمنًا ومستحكمًا بجمهورية سبتمبر ومقدراتها ، حاربوها بكل السبل ، استغلوها ابشع استغلال ولمآرب خاصة بهم . وعندما توحدت اليمن ، أرادوا وحدتها غنيمة وتبعية ، ناهضوها بشراسة ، ومناصرة البعض منهم كان تشفيًا ورغبة في الإنتقام من خصومهم الذين بعد اخذوا الجمل بما حمل . ولأنهم كيانات فئوية نفعية تنتمي إلى ما قبل الدولة فلم يهدأ لهم بال إلَّا بفرض الهيمنة على اليمن شمالا وجنوبا .
١١ فبراير ٢٠١١م ، فكرة ثورية فرضتها عوامل واستحقاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية وديمقراطية ودستورية وأخلاقية ، فكان لزامًا أن تتعثر وتغرق في بيئة غير صالحة للحرث . فهذه الثورة يتوجب لها مناخات مغايرة عما هو سائد ، قوى ثورية جديدة تؤمن بالتغيير الجذري ، ولأن الظروف الموضوعية متخلفة زمنًا عن الظروف الذاتية النخبوية ، نالوا منها فلم يبقوا منها غير مقررات ودستور مصلوب وعالق على ذمة الاحياء .
الشيخ سنان ابو لحوم ، شيخ مشائخ بكيل ، اعترف في مذكراته بهذا الخطأ الفادح . كان هو وزملائه طلبوا من مجلس القيادة بعد ثورة ٢٦ سبتمبر مباشرة ، وبعريضة مكتوبة وممهورة بتوقيعهم ، بإعادة الثالوث الى قبائلهم ومعسكراتهم وتجارتهم . الجديد المستجد الان ، هو بروز فئتين تنتميان إلى ما قبل الدولة ، إلى ما قبل ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م ، وإلى ما قبل التوحد ٢٢ مايو ١٩٩٠م ، فكلاهما يمثلان مصالح فئوية ضيقة ليست وطنية ، وليست عادلة .
فالجماعة الحوثية الطائفية عادت وسيطرت على كل شيء بما فيها الثالوث ومكاسبهم ، ما يعني إضافة ضلع رابع إلى الثلاثة الأضلاع المهيمنة ، لذلك يتوجب الحديث عن مربع كامل الأضلاع شمالًا . وجنوبًا عادت المناطقية مجددًا إلى الساحة ، ودونما اعتبار بكونها عِلَّة مزمنة قاتلة للدولة الوطنية الجنوبية التي سادت منذ ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م .
كان الجنوب يمايز عن الشمال بالدولة الوطنية بكل ما تعني من مؤسسة ونظام وسلطات وتطلعات . فهذه الدولة للأسف لم تصمد طويلًا ، فقادة ثورتها واستقلالها نقلوا إليها أمراضهم الدفينة ، ورويدًا برزت المناطقية متربعة سلطات الدولة وجيشها وأمنها ووظائفها وصراعاتها البينية . والنتيجة ذهب الجنوب إلى توحد سياسي بذهنية متعبة ، وبدولة ضعيفة مهترئة فاقدة القدرة على لملمة أجزائها المبعثرة بفعل الصراعات المناطقية . الخلاصة ، هذه الأشكال لا تؤسس لدولة قوية راسخة بمؤسساتها النظامية ، وفي كل الاعتبارات هي أشكال مقوضة لفكرة الدولة الوطنية العادلة . القبيلة والطائفة والجهة والمذهب والعسكر والسلاح والمال الفاسد ، ربما أوجدت وصنعت حُكمًا ، وربما هيمنت وقتًا ، لكنها ابدًا لن تخلق وضعًا آمنًا ومستقرًا ، ولن تبني دولة قوية مزدهرة سياسيا واقتصاديا . وإذا كان الشمال رزح زمنًا وما زال لهيمنة الأضلاع الأربعة ؛ فإن الجنوب عانى وما زال من هيمنة الضلع الخامس ( المناطقية ) . الحل باعتقادي لا يكون بغير الدولة الوطنية الحديثة ، دولة يتشارك بها الجميع دونما فروقات أو تمايز أو تذمر من سطوة أقلية ، دولة تتوزع فيها الثروة والقوة والسلطة على كافة الفئات المجتمعية . دولة مواطنة متساوية ، دولة العدالة والتنمية والحقوق والحريات ، دولة لا يحتاج فيها الحضرمي لمؤتمر جامع للدفاع عن وجوده ، أو عدني للبحث عن أصوله وجذوره كي يحمي ذاته . دولة لا يشعر فيها اللحجي أو الصنعاني أو التعزي أو البيضاني أو الشبواني او الضالعي أو الأبيني أو المهري بالتهميش والاقصاء ، بالانتقاص من حقه وكرامته وحياته ...
محمد علي محسن