ولدت في عام 1972م وعاصرت مرحلة تقارب الخمسين سنة، كانت مزدحمة بالأحداث، ولو قدر لي أن أكتب يوميات منذ ذلك الحين لخرجت في سفر كبير كل فصل منه يمثل مرحلة من الأحداث والتقلبات التي يظن الظان من غرابتها أنها لا تأتي في نسق مترابط، ولعل التناقض هو الصفة البارزة والظاهرة في مسيرة حياتنا تلك.
ولدت في فبراير 1972م ومنطقتنا تغلي بحوادث القتل والاعتقال والنزوح، فبعد ميلادي أعدم اثنان من أعمامي في سجون الشيوعيين ضمن المئات وربما الآلاف في عموم البلاد، لا يدري هؤلاء الذين أعدموا لماذا أعدموا ولا يفهم القتلة ماذا يريدون وما هي جرائم هؤلا المقتولين. أعدم عماي واعتقل جدي عاما كاملا خرج بعده مثقلا بالمرض والقهر والألم فلم يلبث أن مات، وكان موته أول حدث تختزنه ذاكرتي الصغيرة، كان ذلك في رمضان وكان يوما مطيرا وكان الحضور مع ذلك كبيرا وكأنه يشكل حالة احتجاج على النظام القمعي آنذاك، مات الجد الذي شغل منصب قاض في محكمة القليتة وكان رئيس لجنة معالجة الثأر في ولاية دثينة، مع مكانته القبلية وشخصيته الفذة ووزنه الاجتماعي، رجل بهذا الحجم يعتقله ويحاكمه صبيان تافهون، فكيف لا يخرج من السجن وهو يعاني مرارة قهر الرجال ؟ أعتقل جدي وأعدم عماي كما أعدم عدد من أخوالي وأقاربي وشرد آخرون إلى شمال اليمن، وكنت حينها طفلا لا أعرفهم ولكني كنت أسمع أخبارهم وذكراهم من أمي، مات بعضهم في الشمال قبل أن أعرفه وعاش بعضهم حتى عرفته بعد الوحدة مباشرة وبعضهم لم أعرفه إلا بعدها بسنوات، ومنهم من طاب له المقام فلم يعد إلى الجنوب إلىاليوم . قتل هؤلاء وأعدم هؤلاء وشرد هؤلاء ضمن أعداد كبيرة في كل المحافظات الجنوبية دون استثناء (تلك كانت لحظات ميلادنا واستقبالنا للدنيا) . مضت السنوات ونحن أطفال نتسامر في ليالي الشتاء على الفانوس، نستمع حكايات أمنا عن أهلها الذين قتلوا أو نزحوا خارج البلاد، وحكايات أبينا عن قحطان الشعبي وسالمين وربما قصص عن أبي زيد الهلالي وذياب بن غانم وتغريبة بني هلال، ثم حكايات باحواس وبانواس وقصص أخرى تقصها لنا العجائز في ظل الظهيرة، وبعض القصص الدينية التي نسمعها من الجد سالم علي محمد يرحمه الله. كنت طفلا ذا ذاكرة قوية تختزن الحوادث كلقطة تمثيلية فتعيد تكرارها مرارا ومرارا. لا زلت أتذكر ( محمد صالح ) الذي جاء إلى القرية ليبني بعض البيوت لأهلها ولكنه هرب قبل أن يكمل بيت الجد صالح علي وسمعت الناس يقولون أنه هرب لأن سالمين قتل، ثم أتذكر التعبئة الشعبية التي وصلت إلى قريتنا تحشد الناس للحرب بين الشمال والجنوب، فجاءت سيارة الشرطة إلى بيدر( وصر ) القرية فلم تجد إلا المرحوم الجد منصور علي محتبيا وحوله عدد من الصبيان كنت أحدهم، لازلت أتذكر سيارة الشرطة والجنود والمرحوم العبد الوحيش وكان شرطيا حينها ولأنه من قريتنا فقد أخذ يصرف العسكر عن الإلحاح في البحث عن الرجال المقاتلين في هذه القرية الصغيرة والذي فعلا كان كثير منهم عسكريين في ثكناتهم . وفي مادة الاجتماعيات للصف الرابع كانت توجد صور لسالمين وعبد الفتاح وعلي ناصر محمد وكأنهم يمثلون لحظات التقلبات تلك بكل مضامينها. كانت فترة علي ناصر فترة استقرار إلى حد كبير فقد توقفت موجة الاعتقالات والاعدامات وأوقفت جبهات القتال، فترة حكم علي ناصر بدأت من عام 1980م وكنا في بداية علاقتنا بالمدرسة ومن خلال المدرسة تعرفنا رغم طفولتنا على بعض ملامح المرحلة ففي الصف الثالث الابتدائي كان مقررا علينا درس بعنوان (ناديجدا كروبسكايا) وهي زوجة فلاديمير إلتش لينين أوليانوف، ولقد حفظنا اسمها واسم لينين في تلك المرحلة. كان مستوى الدراسة قويا ودرجة الانضباط عالية والنشاط الطلابي مستعرا، فهناك الطلائع ومنظمة أشيد وهتافات ومسيرات وجمعيات أدبية ومسابقات ومجلات حائطية وأنشطة رياضية وفنية وكلمات صباحية واحتفالات بكل المناسبات الوطنية. في تلك المرحلة وجد الكثيرون فرص الدراسة في الخارج على حساب الدولة في الاتحاد السوفيتي حيث يدرس أحد أعمامي الهندسة المدنية في أكرانيا ويدرس الآخر الطيران الحربي في موسكو وكان الثالث يستعد لدراسة العلوم الأمنية في ألمانيا الشرقية.وابتعث الطلاب إلى كوبا والمجر ورومانيا وبلغاريا وغيرها من دول المعسكر الإشتراكي . كانت الرواتب منخفضة والاحتياجات قليلة والنفوس قنوعة والحياة مستقرة والنظام قويا والشعب خاضعا للنظام والقانون رغبة ورهبة. لم يأت عام 1985م حتى برز صراع الأجنحة من جديد ولكنه هذه المرة سيكون أكثر ضراوة لأنه أخذ بعدا مناطقيا وكانت القوى متكافئة وعندها الكثير من السلاح، كنت حينها في الثالثة عشر من عمري وكنت أسمع ما يدور عن الاحتقان في عدن والتعبئة المناطقية والتحشيد العسكري وانتظار المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي اليمني. كان الناس قلقون ومتحفزون، لا زلت أتذكر نتائج المؤتمر الثالث والناس تستمع من الإذاعات كلمة الأمين العام علي ناصر محمد ثم كلمة رئيس الوزراء حيدر أبوبكر العطاس والذي عين في هذا المنصب يوم ذاك، كان من نتاج هذا المؤتمر عودة عبد الفتاح إسماعيل من موسكو وتعيينه في المكتب السياسي وتعيين العطاس رئيسا للوزراء، وتنفس الناس الصعداء وظنوا أن الغمة انقشعت . بعد شهرين من هذا المؤتمر وفي صبيحة يوم الاثنين 13 يناير عام 1986م وكنت حينها في الصف السابع سمعنا أن الحرب تفجرت في عدن وسمعنا إذاعة لندن تعلن مقتل علي عنتر وصالح مصلح والبيض وعلي شايع، وهرع الكبار إلى أبين للقتال استعدادا لدخول عدن، ولم يبق في القرية غير الأطفال والنساء والعجزة، مرت أيام وجيء ببعض القتلى منهم خالي سالم رحمه الله الذي قتل في العلم وهو يحاول الدخول إلى عدن ومعه آخرون منهم سالم رجب وخالد الرباش، هذه الأسماء علقت في ذاكرتي حينها. كنا نتابع أخبار الحرب من إذاعة لندن . مرت أيام صعبة ومريرة ثم جاءت أخبار هزيمة علي ناصر ومن معه وبدأ الزحف نحو الشمال وكان هذه المرة يفوق كل المرات، وكان عدد القتلى من الطرفين كبيرا قيل أنه تجاوز العشرة آلاف قتيل. خلت القرية من معظم أهلها وبدأت تصل إلينا أسماء القتلى بعد أن انكشف غبار المعركة فكان حصيلة القتلى من أهل وليد 28 شابا وبعضهم أشقاء، ولم تبق قرية ولا قبيلة إلا وذكر منها قتيل أو معتقل. أتذكر أنه وفد إلى مودية الكثير من العائلات التي نزحت من عدن وبقوا فيها لعدة سنوات وبعضهم لم يعد إليها إلا بعد الوحدة. أول مرة أسمع كلمة (الكدم) كانت من فم علي سالم البيض في خطاب ألقاه في زيارته إلى مودية بعد الحرب بمدة حيث قال : لا تتوقعوا أن الذين في الشمال ممكن يعودون هم الآن يأكلون كدم في السوداية . ولم أفهم حينها ما معنى كلمة كدم، وبعدها زار العطاس مودية وكان رئيسا وألقى خطابا يؤكد فيه العفو العام وأنه ما فات فات ومن خرج لا يمكن يعود، ولقد حضرت خطاب العطاس وخطاب البيض ضمن طلاب المدارس. نزح إلى الشمال الكثير من المدرسين والموظفين المدنيين وجرى تعيين بعض خريجي الثانوية مدرسين بدلا عنهم وكان من ضمن النازحين مدير مدرستنا الأستاذ ناصر سعيد حفظه الله، وعين أخوه الأستاذ صالح مديرا للمدرسة. ذهب الكثير من الأهل والأقارب والأصدقاء إلى الشمال وحيل بيننا وبينهم وكنا نتبادل مهم الرسائل الخطية عبر البريد، ولد لهم أبناء وتزوج آخرون ومات آخرون وهم بعيدا عنا. ذهبنا إلى الثانوية وهناك بدأت اهتماماتنا الإسلامية وهذه قصة أخرى تحتاج كتابة تفصيلية عنها. ولكن بدأنا هناك نتبادل بالسر أشرطة كشك والقطان وحسن أيوب وبدأنا نسمع عن الجهاد الأفغاني ووصل إلى مسامعنا اسم سياف وحكمتيار ورباني وأحمد شاه مسعود وسمعنا شريطا لتميم العدنان عن الجهاد الأفغاني. وفي قرية امشعراء حضرت جنازة ورأيت صحيح البخاري لأول مرة في حياتي وكانت بالنسبة لي حادثة عظيمة. في آخر سنوات الثانوية بدأ الكلام عن الوحدة، وكنا غير مصدقين فلم نعتد في حياتنا من الأنظمة إلا الأخبار السيئة، كان أستاذ الفلسفة معتصم السوداني يبشر بوحدة قريبة بين الشطرين وكنت أقول له : لا تصدق أن ذلك يحدث. فكان واثقا أن أمر الوحدة وشيك. وقد هيء لذلك بالسماح بالتنقل بين الشطرين ثم جاء اتفاق نوفمبر وفجأة جاء إعلان الوحدة التاريخي في 22 مايو 1990م.