ما حدث في أفغانستان لم يكن محض صدفة ، وإنما بقناعة الطرفين الأمريكيين وطالبان ، فقد ذكرت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري في كتابها " خيارات صعبة " بعضًا من تلك التكتيكات الدبلوماسية السرية بين الجانبين والهادفة إلى مغادرة الأمريكيين الساحة الأفغانية ..
نعم ما حدث من تسليم سريع وسلمي للمدن كان برغبة من الطرفين ، فلا الأمريكيين تصلَّبوا في مواقفهم أو طالبان بقت هي ذاتها الحركة المتشدِّدة في مواقفها المعادية لأمريكا والغرب ..
من يقرأ تاريخ أفغانستان لن يدهش بما جرى بين الطرفين المتحاربين ، كما ولن يتفائل بمستقبل أفضل في كنف حركة دينية متزمة ، فعلى انفتاحها نسبيًا كجماعة منتمية فقهيًا للحنفية ، في المحصلة لا تختلف كثيرًا عن الجماعات السلفية الحنبلية ، سواء في نظرتها للعصر ووسائله أو في تعاطيها مع الآخر المختلف دينيًا ومذهبيًا .
الأيام والإعوام القادمة ستضع طالبان في المحك ، فالسلطة وأدواتها وإدارة تعقيداتها غير المسجد وعلومه ومنبره الوعظي ، فشتان بين الأثنين .
وهذا أول تحدي ، ما يتوجب على طالبان أن تثبت للشعب الأفغاني والعالم بأنَّها الحل الصائب والناجع لأزمات هذا البلد الفقير والمتعدد الأعراق والطوائف .
وإمَّا العكس بحيث تكرر وجودها كحركة دينية منحصر فعلها بشعائر وطقوس وممارسات لا تؤكل جائعًا أو تقيم دولة من أي نوع .
شخصيًا ، ما أتوقعه هو أن تشرع الجماعة بإقامة إمارتها الإسلامية ، ودونما اعتبار لرغبة الأفغان في إدارة نزيهة لبلدهم الفقير وغير المستقر ، فعلى سوءة جمهورية " حميد كرزاي " و" أشرف غني " و" عبدالله عبدالله " ؛ الأفغان لن يرضون بأقل من دولة توفر لهم لقمة العيش ، وتوقف نزيف الدم والخراب ، وتشرع بالبناء والتنمية وتحترام الحقوق والحريات وسواها من المكاسب المحققة لهم خلال العقدين الفارطين ..
وهذه مبادئ تتقاطع في صميم جوهرها مع جماعة غايتها إمارة إسلامية مستهلمة أفكارها من تراث فقهي لم يعد صالحًا في عالم تجاوز فيه الشعارات والخطابات والموعظات إلى المصالح والمنافع .
والواقع أن أفغانستان شهدت حراكًا ديمقراطيًا وثقافيًا وحقوقيًا في سني غياب الحركة ، ما يعني أن المواطن الأفغاني لن يفرط بحق التصويت في الانتخابات وفي تعاطيه مع وسائل العصر الحديث كالهاتف والانترنت والحريات التي توافرت له في النشر والتواصل والرأي ، فضلًا عن مشاركة المرأة وحضورها القوي في السياسة والإعلام والإغاثة الإنسانية والثقافة .
وهذه الأشياء تُعد من المحرَّمات في نهج الحركة ، ما يجعلها هذه المرة في مواجهة تحديات طرأت في الساحة الأفغانية ، وهذه التحديات هي أكبر بكثير من تفكير الجماعة الدينية .
كما والأزمات والمشكلات التي تخلقت منها الجماعة واتت بها إلى سدة الرئاسة كانت في مجملها اقتصادية وسياسية ونظامية وأخلاقية ، وليس مثلما يظن البعض بأنها بواعثها دينية فحسب .
فحين سيطرت طالبان على أفغانستان قبيل عقدين من الزمن ، كانت العاصمة كابول أشبه بخرابة مهجورة نتيجة المعارك الطاحنة ، فما أن خرجت القوات السوفيتية هزيع العام ١٩٨٩م إلَّا وبرزت الفصائل الأفغانية تحارب بعضها مانحة طلبة العلوم الشرعية فرصة التكوين والانتفاضة على تلك الحالة ، فكان للجماعة بلوغ العاصمة والسيطرة على مجريات الأحداث .
مثلما حدث الان ، حين استغلت إخفاقات الحكومات المتعاقبة وسخط الأفغان ، وكذا عجز الأمريكيين عن فهم واستيعاب خصوصيات هذا البلد الفقير والمتخلف ، الفارق هذه المرة أن منطلقها لم يكن عفويًا ومن أربطة العلوم الشرعية ومن صروح العبادة وإنما من تجربة كفاح طويلة ومن تفاهمات سياسية مع الأمريكيين .
السؤال الأكثر إلحاحًا الآن : ماذا بوسع طالبان أن تقدمه للأفغان ولدول الجوار وللعالم ؟ وهل طالبان التي رفضت تسليم أسامة بن لادن وافزعت اليونيسيكو والعالم بقرارها القاضي بهدم تماثيل " بوذا " وشغلت ذاتها بإقامة الحدود على النساء السافرات أو أصحاب محلات الحلاقة أو الغناء ؛ ستكون طالبان التي حاورت الأمريكيين وتعهدت بسلامة مناوئيها وتسلمت المدن سلميًا ودون طلقة رصاص ؟؟؟ .
وهل الحركة ستقتفي القاعدة وداعش والنصرة وسواها من المسميات الجهادية أم ستذعن للمنطق والواقع رغم تصادمه مع قناعات صاغها تاريخ وإرث موغل في الاستبداد والرفض للآخر المختلف فقهيًا ودينيًا وفكريًا .
فهذه الجماعات الإسلامية لم تستوعب أو تدرك بعد معنى أن ينتمي الإنسان ذهنيًا وبدنيًا للألفية الثالثة وفي ذات الوقت يتم إجباره قسرًا كي يتحلل من حاضره المختلف كليًا عن حياة العصور الوسطى .
محمد علي محسن
