منذ القرن الهجري الأول بدأ تشكل ملامح اتجاهين واضحين داخل النخب السياسية والدينية المسلمة: الأول يمكن تسميته تيار الرسالة، وهم أغلب المسلمين الذين يعتقدون أن النبي محمداً عليه السلام يعد في المقام الأول حامل «رسالة» وهو من دون هذه الرسالة «بشر» عادي، يشترك مع غيره من الناس في المشتركات الجينية. وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى، منها الآية: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي» والآية «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا». وهنا تأكيد على أن «السمات الجينية» لمحمد البشر ليست مربط الفرس، ولكن «الخصائص الدينية» لمحمد الرسول هي التي تدور حولها متطلبات الاتباع. غير أن تياراً آخر مثل أقلية مسلمة حاول اختصار محمد/الدين في محمد/الجين، وذلك بالتركيز على «البعد الأبوي» لمحمد الجد في مقابل «البعد النبوي» لمحمد الرسول، في محاولة واضحة للاستثمار السياسي والاقتصادي في الشخصية النبوية، عبر تكريس فكرة «الإسلام السلالة» في مقابل «الإسلام الرسالة» ليتسنى تطويع «إسلام الرسالة» في أبعاده الدينية ومحتواه الرسالي العام، لصالح «إسلام السلالة» في حدوده الجينية ومحتواه السلالي الخاص.
ومع مرور الزمن سعت رموز هذا التيار لاختصار «الرسالة» في «السلالة» ومن ثم التأكيد على أن السلالة هي عين الرسالة، في احتكار للدين الذي تحول وفقاً لهذا الفهم إلى «تراث مادي لجد جيني» أكثر من كونه «ميراثاً روحياً لرسول ديني».
وقد نصت آية قرآنية واضحة على نفي «الصفة الأبوية» لمحمد لصالح صفة أخرى أبقى وأدوم هي «الصفة النبوية» كما جاء في نص الآية «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين» فالجزء الأول من الآية نفى فكرة «الأبوة السلالية» فيما أكد الجزء الثاني على ثبوت فكرة «النبوة الرسالية» التي هي مناط الدين كله، ورغم وجود هذه الآية، ومع أن التاريخ يسجل أن محمداً لم يعش له أي من البنين (الذكور) ظل الانتهازيون السياسيون من «التيار السلالي» يحاولون توظيف الدين نفعياً لصالحهم، بالتأكيد على فكرة اختصار «النبوة» في «الأبوة» متجاهلين الدمار المادي والتشوهات الروحية التي سببتها هذه الأفكار العصبوية التي تنتمي إلى مرحلة «القبيلة العربية» قبل الإسلام، ومتغافلين عن الهدف من كون محمد بلا أبناء، لأنه معرفة المعارف، لا يحتاج إلى أبناء ليعرِّفوا به عن طريق حمل اسمه بعد موته، بما أنه حمل رسالة تبقيه حياً إلى ما شاء الله، حيث يصبح لمحمد الرسول «أبناء دينيون يحملون رسالته» لا مجرد «أبناء جينيين يحملون سلالته» لعدم حاجته لهذا النوع من الأبناء (الذكور) الذين يحتاجهم من يموت ليبقى ذكره عن طريق «التناسل الجيني السلالي» لا من يموت ليبقى ذكره عن طريق «التواصل الديني الرسالي» ولذا نجد عظماء التاريخ إما أنهم لا نسل لهم أو أن نسلهم انقطع، ذلك أن هؤلاء العظماء مستمرون معنا بـ«الفكرة» لا بـ«الأسرة» حيث نعرف اليوم «فكرة» أرسطو والفارابي والغزالي وابن رشد وكانت وهيغل ونيتشه والعقاد وغيرهم، ولكننا لا نعرف «أسرة» واحدة لأي من هؤلاء المفكرين، والسبب بسيط وهو أنهم كأسماء بارزة معروفون بـ«الفكرة» لا بـ«الأسرة» وهذا هو حظ الخالدين في التاريخ وقدرهم في التواصل الرسالي لا التناسل السلالي.
والغريب أنه رغم وجود نص واضح بنفي «الأبوة الجينية السلالية» للنبي لصالح «الأبوة الدينية الرسالية» إلا أن الانتهازيين السياسيين فيما بعد زعموا أن أبناء ابنته أبناؤه، مستغلين بعض الأحاديث التي ورد فيها على سبيل المجاز لا الحقيقة أنه كان يتحدث عن الحسن أو الحسين بصفة «ابني» مثلما يقول أي جد لسبطه يا بنى، أو مثلما يقول أي كبير لأي صغير يا ولدي. والواقع أن اسم الحسين هو الحسين بن علي، لا الحسين بن محمد، وقد جاءت الآية لتمنع هذا الخلط بين الحقيقي والمجازي في هذه القضية في النص: «ادعوهم لآبائهم».