على مدى سنوات العقد والنصف الأخيرة هناك محاولة معدة بمهارة وإتقان، لإقناع الشعب الجنوبي، أنه لن يعرف الأمان ولا الخدمات ولا العيش العادي، ولا يقدر حتى أن يعيش حياته البيولوجية إلا تحت لواء اليمن الموحد (غير الموحد أصلاً).
يقولون أن الوحدة اليمنية هي عز وشرف وكرامة ورفاهية وحرية وو.. و.. و.. المواطن، ويخصون بهذا المواطن الجنوبي، وكأنه لم يعرف لا العيش ولا العزة ولا الكرامة ولا الحرية ولا الرفاهية إلا بعد حربهم التي دمروا بها كل علامة من علامات تلك المزايا.
ارتبط تصاعد هذه الحملة التضليلية باندلاع ثورة الحراك الجنوبي السلمية الرائعة في العام 2007م، رغم تدشينها عملياً (اي تلك الحملة) أثناء وبعيد كارثة 22 مايو 1990م، وحاولت الأجهزة المخابراتية وأدواتها الإعلامية إقناع المواطن الجنوبي بأن أية مطالبة من قبله باستعادة دولته أو بحقوقه العادية أو حتى بتحسين مستوى معيشته ستؤدي إلى حرمانه من أية حقوق، مهما كانت ضئيلة، لتتحول أكذوبة الرفاهية والعزة والكرامة وسواها من المفردات الخشبية الميتة إلى عقاب جماعي لشعب تعداده قرابة الستة ملايين نسمة يكتوي بالحرمان من أبسط وسائل الحياة التي ظل يتمتع بها بشكل شبه مجاني –مهما كانت متواضعة- حتى 21 مايو من العام 1990م
وبعد الانتصار الجنوبي الهائل في ٢٠١٥م على غزو الحوثيين وحلفائهم العفاشيين طبقت هذه الاستراتيجية بحذافيرها من خلال سياسة التجويع وحرب الخدمات وتدمير البنية التحتية والمؤسسية في الجنوب وتخريب الأمن وتنشيط الإرهاب والجماعات الإرهابية، وكان المروجون الإعلاميون لهذه السياسات يبررون ما يتعرض له الجنوب بأن هذه سياسات الدولة التي يقودها الرئيس هادي ابن الجنوب.
ذهب هادي باحترام لنفسه وسلم السلطة لخليفته رشاد العليمي ابن الشمال الواقعة تحت هيمنة الحوثيين.
لا تكمن المشكلة في أن رشاد العليمي وجوقته من ابناء الشمال، ولكنها تكمن في إن كل أفراد هذه الجوقة هم من تلاميذ مدرسة ٧ يوليو ومن أكبر مهندسي سياساتها طوال ثلث قرن، ومعظمهم أشرفوا على قتل الجنوبيين طوال العقد والنصف الماضيين حينما كان رشاد العليمي (رئيس الجمهورية) وزيرا للداخلية ثم رئيسا للجنة الأمنية وتحت إشرافه تتم التصفيات الجسدية للناشطين السياسيين السلميين الجنوبيين.
كنت دائما أكرر أن الرئيس هادي هو رئيس لبلاد ليست بلاده وشعب ليس شعبه، وفي الحقيقة إنني قد سمعت آلاف الأصوات التي تتهم الرئيس هادي وهو في سدة حكم الشرعية، بالخيانة والعمالة والتآمر وتدميرالشعب والجيش اليمنيين وإدخال الحوثيين إلى صنعاء، وتسليم اليمن للتحالف العربي، الذي يسمونه قوات الاحتلال والعدوان، واصحاب هذه الأصوات ليسوا مجرد مواطنين عاديين أو من أنصار الجماعة الحوثية، لكنهم سياسيون وناشطون إعلاميون وبرلمانيون شماليون من (أنصار الشرعية) لهم انتماءاتهم الحزبية وتأثيرهم القبلي والسياسي،
اليوم تعاد صياغة المشهد بصورة مقلوبة، رشاد العليمي الذراع الأيسر لنظام عفاش ومعه طارق عفاش وبقية الجوقة من أبطال غزو الجنوب واحتلاله في ١٩٩٤م وقتلة الجنوبيين منذ ٢٠٠٧م يتصدرون المشهد السياسي ويديرون دولة كل مساحتها هي الجنوب وكيانه وثرواته وشعبه وارضه وهويته، ولا يديرون خمس مديريات في البلاد التي حشدوا سكانها لغزو الجنوب في العام إياه، بل سلموها لأشقائهم الحوثيين، واتجهوا جنوبا من جديد على هيئة حكام هاربين.
إنه نفس المشهد يكرر نفسه بطريقة تراجوكوميدية مقرفة، رئيس لشعب غير شعبه وعلى أرض غير أرضه التي يهيمن عليها الحوثيون، تماما كما كان الوضع مع الرئيس هادي، والفارق الوحيد بين هادي والعليمي، أن الأول كان صادقا مع الشمال ووفيا له بما توفر لديه من إمكانيات في ظل هيمنة مراكز القوى حتى على موظفي مكتب الرئيس وعماله العاديين، أما العليمي وجوقته فهم يديرون بلدا ليست بلادهم ولم يدخلوها إلا غزاة في 1994ن ثم هاربين عام 2015، وبالضبط عام 2022م، وشعبا ليس شعبهم، بل شعباً يعتبرونه معاديا بالنسبة لهم ولنهجهم السياسي وثقافتهم العسكرية والقبلية والسياسية بشكل عام.
محنة الجنوب متواصلة ولن تتوقف بل إنها تتصاغد وتستمر في التصاعد ، طالما بقي قراره مرهوناً بيد حاكم قادم من صنعاء جنوبياً كان أو شمالياً، غازياً كان أو هاربا، فالأمر سيان، ما لم يمتلك الشعب الجنوبي قراره ويستعيد دولته ويسترجع سيادته وتقرير مصيره بإرادته الحرة غير المقيدة ولا المرتهنة لأي مركز من مراكز القوى من الشمال الشقيق.
والله ولي الهداية والتوفيق