محمد علي محسن
محمد علي محسن

تحزَّبوا أو تهوَّدوا !! 

 

قبل الحرب استوقفني بائع خضار في السوق ، قال لي : أعجبتني رواية " حقل الفؤاد " ، فيها كل المتناقضات ، البغض والتسامح ، الخيانة والوفاء ، الحب والتعايش ، الظلم والحق ، الانكسار والانتصار ، وأجمل ما في القصة هو عودة " راحيل " اليهودية ولقائها ب " صابر " ، بعد أن ظننت أنه لا تلاقيا .

 

في مرة تالية التقيت ضابط متقاعد أخبرني أنه قرأ الروايتين " حقل الفؤاد " و " الشرق أشجان " ، وأنه استمتع جدا بقصة " جمال " و " أنوشكا " المعلمة الروسية و " أشجان " الفتاة الريفية راعية الضأن .

 

قبل أيام كنت مع اولادي ، وإذا بعامل بنشر اسمه محمد ، وهو خريج كلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء ؛ سألني ماذا كنت توقعت حدوث ما نعيشه اليوم ، حدثني أنه قرأ رواية " حقل الفؤاد " ووجد أحداثها الواقعة في اربعينيات وستينيات القرن الفائت تتسق مع مجريات الوقت الحاضر ..

هناك عشرات القصص التي صادفتني مع أشخاص بسطاء عاديين ، لكنهم مثقفون ومتابعون لكل ما يكتب في الصحافة أو مضمار النص الروائي . 

وجدتني اسأل ذاتي : لماذا هؤلاء لم يحصلوا على فرصتهم على ما يمتلكونه من ثقافة ومعرفة ؟! .

الحقيقة المُرَّة هي أن فئة من الخلق صعدت فوق رؤوسنا بينما موضعها الطبيعي ليس هنا ، وبالمقابل هناك فئة مثقفة وموهوبة بقت في هامش الحياة ، والمفترض انها في رأس هرم الشأن الثقافي أو التعليمي . 

الوطن الذي لا تكون ذخيرته المعرفة والموهبة والإبداع لن يكون وطنا جديرا بالأمل والتفاؤل والتطور والسلام .

 

 المؤسف أننا ومنذ ستة وعقود ونيف ونحن في ذات الدوامة ، ننشد الخير والحب والنهضة ، بينما ادواتنا غير صالحة لتحقيق مثل هذه العناوين الكبيرة .

 

في لقاء جمعني برئيس الوزراء الأسبق الدكتور معين عبد الملك ، سألته السؤال الذي غالبا ما أستحضره في مثل هذه اللقاءات بالشخصيات العامة .. 

قلت له : المثقف المستقل في هذه البلاد اين موضعه من الإعراب ؟ نريد انصافا لهذه الشريحة المهمة التي عانت من التهميش والاقصاء زمنا طويلا ، وما فتأت ضحية المزايدة والتقاسم الحزبي والمناطقي الذي يمارسه اشاوس الأحزاب اليمنية الذين استولوا على الوظيفة العامة ووزوعوها على اتباعهم ومواليهم وبكل صلف وصفاقة .

سردت عليه قصتي الشخصية مع وظائف كنت مرشحا لها أو وظيفة عانيت ما عانيت منها بسبب لعنة ان يكون الإنسان منتسبا لوطنه لا أقل ولا أكثر .

 

نعم لماذا يرتقي البعض ولمجرد أنهم يحملون عضوية المؤتمر أو الاشتراكي أو الإصلاح أو الناصري ، أو لمجرد ولائهم لهذا القائد أو ذاك الفصيل بينما المستقل عليه أن يدفع ثمنا لبقائه خارج دائرة الأحزاب والولاءات الضيقة ؟ .

 

اتذكر الان بمرارة ما عانيته كمستقل ، ناصحا الشباب أن لا يكرروا الخطأ الذي ارتكبته ، فلو أنني أسست حزبا من اي نوع أو التحقت بكيان حزبي لا يزيد حجمه في الواقع عن مقر وصحيفة ويافطة وقادة ، لربما كنت وزيرا أو سفيرا أو قنصلا أو وكيلا ، وهذه وظائف عامة ، ومن حق أي إنسان تتوافر فيه شروط شغلها .

 

هذه الأحزاب عبثها طال حتى حصة المستقلين في مؤتمر الحوار الوطني ، التفوا عليها وبقوائم حزبية تقاسموها كغنيمة ، وهذا دينهم للأسف الشديد ولا تغرنكم خطبهم العصماء عن الوطن والعدالة والمساواة وسواها من المفردات المدغدغة لمشاعر السذج والمخدوعين .

 

فبرغم انتفاضات وثورات وحروب ودماء وقرابين جسام ، مازال المثقف المستقل يعاني اغترابا مريرا في وطنه الذي احالته الحزبية والمناطقية والسلالية إلى مجرد جغرافية ووظائف وغنائم تتعارك عليها ديكة الاحزاب والمكونات السياسية والعسكرية .

 

وقبل أن اختم مقالي هذا ادعو الشباب المستقل حزبيا أن لا يكتفي بشهادته أو كفاءته أو ثقافته ، فهذه المؤهلات لا تمنح الشخص وظيفة أو مركزا مرموقا أو عيشا كريما، ما يتوجب عليه الانتساب لأي حزب أو فصيل أو مكون ، باعتبارها جميعا رافعات لبلوغ ما يروم له .

 

نعم ، تحزبوا ولسان الحال يردد هجاء شاعر مصري حينما استبد اليهود بكل شيء في عهد المماليك : 

يهود هذا الزمان قد بلغوا .. غاية آمالهم وقد ملكوا 

العز فيهم والمال عندهم .. ومنهم المستشار والملكُ 

يا أهل مصر إني نصحت لكم .. تهوَّدوا قد تهوَّد الفلكُ ..

 

محمد علي محسن