تنهض الصباح ولا تعثر على رأسك أو بدنك ، كُلَّك على بعضك نكرة ، كأنَّك نمت في جهنَّم ، تمضي في سبيلك ولا تعلم من أنت ومن تكون ؟ لا تدري ما وجهتك وماذا ينتظرك في الطريق أو العمل أو السوق .
إنسان مشوش منكسر ممزَّق ، كيان يمشي برجلين ، لكنه فاقد الإحساس والبصيرة . في الطريق تخشى أن ترى صديقًا عزيزًا ، أو قريبًا . في المقهى ، في السوق ، وفي الحافلة لا ترفع بصرك عن هاتفك أو طفلك كي لا يرى احدا وجهك المتعب ، أو يسمع أنينك ، أو تفقد كرمك المعهود بسبب ضائقة جيبك .
في عدن ينام الرؤساء والقادة الفاسدين ، ينام المترفون وعائلاتهم في غرفهم المكيَّفة . في عدن يقهد الآباء والأمهات كي يهمد ويخفت صراخ الاطفال وكبار السن .
مأساة يمكن رسمها بلوحة سريالية تنتمي لعصور الظلام وأزمنة أقنان العبيد . مأساة بهيئة طفلة نائحة من لظى الجحيم ؛ بوجه عابس ساخط لا يدري ما ذنبه ؛ بذهن مرهق فاقد الإحساس بالأمان ..
في عدن لا وجود للدولة ، أو الرحمة ، أو العدالة ، المساواة ، كل هذه المفردات ماتت في أذهاننا ، وفي نفوسنا ، في حياتنا . كانت في حقبة ما مغرية ، جاذبة ، مؤثرة . كُنَّا سذجا وانقياء - أيضًا - حين رهنا أحلامنا لوجوه وأسماء صنعتها اللصوصية . باعت نفسها نظير منصب وجاه زائف ، أو فتات مال ، باعت كرامتنا ، استمرأت عذابنا ..
صدقًا أقول لكم إنني لا أعرف نفسي ؛ فكيف لي معرفة من تربعوا فوق رؤوسنا ؟ من صعدوا سلَّم المجد على أشلاء ودماء احبائنا وشبابنا ؟ .
ماذا تروني كاتب لكم ؟ عن الزعيم الذي ذبح وطنه وشعبه في سبيل رغبة سادية في البقاء ، وأضحى اليوم وليًا صالحًا تدعو له العوام ، وتقرِّب له النُذر وتدبِّج المدائح ؟ .
عن الرؤساء الثمانية الحاملين لجثمان ما بقي من شعب ووطن ؟ عن الملايين المنهكة الساذجة المخدوعة بالشعارات والخطب والوعود . فمنذ طغيان تباب وسيوف المكاربة السبئين قبل ثلاثة ألف عام ، وهذه البلاد وناسها أسرى لذات النهج ، ولسطوة الحاكمين وأفعالهم المشينة القاتلة لروح العدالة والإنسانية .
انا إنسان ضاع عمره ينشد الخير والأمل والسلام من قادة تافهين ، إبي رحل وفي نفسه أشياء لم يستطع إنجازها ، والآن ابنائي وأقاربي وجيراني يتركون المدرسة والجامعة بحثا عن الف أو خمسمائة ريال سعودي . فتيان في ريق عمرهم ، يلتقطون سيلفي فوق رموس الموتى ، بكل نشوة وفرح وبلا أدنى اعتبار لكرامة الأحياء على أقل تقدير .
يموت اليمني في بلاد الإغتراب مرَّة ، وهذا أرحم من الموت آلاف المرات . ليس هناك ما هو أفظع من إغترابنا في وطننا ، ومن رؤية وطننا تنهشه أنياب الذئاب جنبا إلى جنب مع الكلاب المسعورة .
عدن وطن من لا وطن له ، وطن يسكننا كوجع وأنين ، وطن يعيش فصول العذاب ، أخذوه منا من زمن بعيد ، وطن كلما عاد من حتفه أو تحرر من براثن الطغاة ،تكالبت عليه سهام الغدر وأعادته لبؤسه وعذابه وقتله .
ما من شيء يقهرنا ، أو يتسبب في ألمنا ، أكثر من طعنة مسمومة لروح تأوينا ، تلملم شتاتنا ، وبيد القريب وبخنجر الرفيق ومال البعيد . محزن جدا أن تكون عدن وطنا نسكنه جميعًا ، ولا غظاظة لدينا في ذبحه وتقطيعه كقربان أضحية ...
محمد علي محسن