نصحنا قومنا ؛ فقالوا أننا نروم لإعادتهم إلى باب اليمن . دعوناهم لأن يجتنبوا التحشيد على أساس العصبية للجغرافيا ، فمثل هذا التحشيد خطير وقاتل لصاحبه قبل خصومه .
فكان منهم الجفاء والعناد والإصرار على تكريس منطق العصبية للمكان ، وبلا أدنى أحترام للتاريخ والزمن والعقل والمنفعة والتعايش وسواها من المشتركات.
للأسف أنهم لم يكبروا او يكونوا بحجم اليمن الكبير الذي نتطلع ونتوافق على بنائه من أول وجديد ، ووفق معايير سياسية وحضارية ونفعية تؤسس لوطن يتسع لكل ابنائه دونما إقصاء أو تهميش . المسألة لا تحتاج أكثر من قراءة في سفر تاريخ اليمن الموغل بالجبروت والتسلط والعنف في سبيل الاستئثار بالسلطة والقوة . لذا وعندما ننحاز لخيار اليمن الكبير ، فهذا ليس إعتباطا ، أو مجرد شطحة مثالية لا تستقيم مع منطق الواقع الزاخر بالشعارات والهتافات الصادحة منذ ثلاثة عقود .
فمثلما للجغرافيا منطق وهوية ، إيضًا ، للتاريخ منطق وهوية وفلسفة ، فما من جغرافيا منزوعة من تاريخها ، والعكس صحيحا ، وأي حركة أو ثورة لا يكون باعثها أو محركها التاريخ والجغرافيا ، مآلها الإخفاق والفشل .
وبما أن التاريخ والجغرافيا يسيران في خطين متوازيين ، بحيث لا يتخطى أحدهما الآخر ، وانما يمضيان معًا ، فكلاهما في المحصلة واحد ، فلا مكان بلا زمن ، أو زمن دون مكان .
وعليه ومثلما نستميت من أجل مساحة أرض ننتمي إليها ، وبالمقابل لا نغفل تاريخنا الذي نتشاركه جيل بعد جيل ، بل يجب أن نعي ونستفيد ونستوعب دروسه وتجاربه سلبًا أو إيجابًا ؛ لإننا إذا لم نتعلم من أحداثه سنجد ذاتنا الجمعية غارقة في تكرار مآسية وكوارثه . التوحد وعلى إخفاقه ومساوئه السياسية ، كان سقفًا ومظلة فسيحة استوعبت حماقاتنا كجنوبيين وكشماليين وكمواطنين من درجات متفاوتة ، عانوا ما عانوا من ويلات المناطقية والقبلية والطائفية وإلاثنية . نعم كانت حرب ١٩٩٤م قاتلة لروح التوحد السلمي ولصميم الشراكة والعدالة ، لكن ما حدث في ٢٠١١م كان زلزالًا ناسفًا لكل ابجديات المفاهيم السياسية والثقافية.
حدثًا تاريخيًا لم يحسن التعامل معه من فصائل جنوبية ، ومن النخب السياسية والحزبية في الساحة اليمنية عمومًا . تعاطت القوى السياسية والثورية مجتمعة مع الحدث بأدوات وأساليب قديمة أو أنها غير ناضجة أو ثورية مقنَّنة ، فمن هذه الأدوات أو الأساليب ما هي شمولية أو ثأرية أو شخصية نفعية .
وهذه الأفعال للأسف قوَّضت ما هو متاح وممكن إنجازه خلال الأعوام الفارطة . ضحت بالممكن والمتاح من أجل غايات نفعية ذاتية أو ثأرية او عصبوية أو في سبيل فكرة تجاوزها الوقت .
والنتيجة لا دولة ، ولا شراكة ، ولا تجزأة ، ولا توحد ، فجميعنًا ندفع ثمن فقدان البوصلة ، وجميعنا نتشاطر الألم والجزع من الحاضر ومن الزمن القابل ، فكلما تمزقت أيدي سبأ وحمير وذو ريدان أو تاهت سفينة اليمن في محيط لج مضطرب ؛ زادت مخاوفنا من المجهول ، وما يحمله لنا من تبعات كارثية علينا جميعًا وعلى الدولة الوطنية التي ننشدها .
الاستخفاف بالعقول والأفكار والحلول غير التقليدية أودت بنا إلى هذه الحالة الشاذة التي لا تستقيم مطلقًا مع رغبة وتوق اليمنيين في التغيير الحقيقي . التغيير باعتباره سفينة نجاة وحياة لكل الثائرين الحالمين ببلوغ شاطئ الأمان ، لا التغيير الذي يأتي بالقوة وبرغبة الثأر والانتقام .
فحين غلبت فكرة العودة على فكرة المضي قدمًا ، ورجحت فكرة الماضي على فكرة المستقبل ، واستوطنت الذهن عصبيات ما قبل الدولة ، وتلاشت وانحسرت مبادئ وقيم وأهداف ثورية وطنية عادلة ؛ غرقنا جميعًا في متاهات لا وطنية ولا ثورية ولا عادلة .
شخصيًا ، لا ألوم الشباب الذين وجدوا أنفسهم في معمعة الشعارات والخطب العصبوية ، كان اعتقاد هؤلاء أن الجنوب جنة موعودة وأن الشمال موطن ابليس الرجيم .
غفلوا في لحظات من التحشيد والتعبئة الخاطئة أنَّهم كمن يحمل مأساته في ذهنه وفعله الأخرق ، فماذا كانت النتيجة ؟ أفعال غير قادرة على الحياة أو الثبات في وجه العصر الذي نعيشه . فلا متسع اليوم لغير الأفكار الكبيرة المستوعبة لقيم التعايش والتسامح والسلام والتنمية والمواطنة المتساوية وغيرها من مفاهيم الزمن الحاضر . للأسف ما حذَّرنا منه في سنوات الجمر والغليان ، نجده الان حاضرًا وبقوة ، قلنا لكبار القوم : لا تغرنَّكم حشود العصبية للمكان أو القبيلة أو الطائفة .
لكنهم رأوا فيها جماهير غفيرة سريعة الاستجابة ، نسوا أن عشرة أو مئة مؤمنة بالفكرة السياسية لهي افضل مليون مرة من مليونيات باعثها البغض أو التعصب الأعمى للجهة أو الدم . قلنا لهؤلاء مدوا أيديكم لكل الثائرين الحالمين بوطن يسوده العدل والمساواة والرخاء . الجنوبيون لن يعودوا لباب اليمن . كما وتعز وإب والحديدة ومأرب وسواها لن تقبل بهذه العودة أو تبقي أسيرة لربقة جماعة عنصرية سلالية . الجماعة الحوثية لا تختلف عن أي جماعة فاشية أو نازية ، فلا مكان لها ولا ديمومة حياة ولا مستقبل .
نعم الجنوبيين ينبغي أن يدركوا أن وضعهم الطبيعي هناك حيثما اليمن الكبير ، البيت الذي يمكنه استيعاب لكل أفكارهم وتطلعاتهم ، وحتى نزواتهم وحماقاتهم .
الجنوبيون يجب أن يغادروا المساحة الضيقة التي حشروا بها وقتًا ولدواعي سياسية انتفت مبرراتها بحراك وثورة وحرب وأزمات بلا منتهى ، كما وعليهم مغادرة ماض استوطن الذهن الجمعي .
فدون تحرير أنفسهم من أغلال تواريخ واحداث وافكار وممارسات ماضوية ؛ يستحيل أن يكون الحاضر مختلفًا ، أو أن هذا الحاضر يفضي لمستقبل واعد وعادل ومستقر سياسيا واجتماعيا ، بل سيجدون حالهم يكررون ذات الأخطاء والاخفاقات والشطحات والحماقات .
الخلاصة أننا كبرنا في حاجتنا وغايتنا وأفكارنا ، وللأسف قادة اليوم لم يستوعبوا أن طموحنا أكبر من أن يدركوه ، فلا الشمال سيبقى أسيرًا لربقة جماعة سلالية عنصرية أو أن الجنوب يمكن إعادته إلى زمن ما قبل الثورة والاستقلال أو التوحد .
فهذه التواريخ أضحت ماضيًا وعلى العقلاء إن وجدوا التفكير بمشتركات جديدة تؤسس لشراكة وطنية قابلة الاستدامة ، غير ذلك سنظل جميعًا رهنًا للعبث والفوضى والمزايدات والمغالطات ، وهذه جميعها معارك خاطئة استنفدت منَّا كل شيء ، الوقت والجهد والمال والدم والمهجة والتفكير ..
محمد علي محسن