من بلاد الرئيس ، من مكان تسكنه الأشباح ، غادرته النظافة واستوطنته الحمَّيات والأوساخ ، تحلِّق في سمائه أسراب الذباب والبعوض ، اختفت فيه مظاهر البهجة بالمطر وقوس قزح وابتسامات الطفولة .
من مدينة متاخمة لقرية الرئيس ، ظلَّ أهلها مؤلًا لمقارعة الظلم والاستعباد ، وبقت أزمنة وحقب منتصبة الكرامة ، ولم يحدث أنها طأطأت رأسها خجلًا أو استسلامًا .
كانت أحلام الرجال فيها تطاول جبالها الباسقة ، وأمنيات الصغار تعانق السماء . نقطة ساخنة ثائرة لا تهمد أو تنام ، منسية لا تماثلها بقعة ، شاخت وهرمت بانتظار الزمن الجميل الذي نذرت روحها وسنين عمرها لأجله .
بلاد طالما كانت أحلامها كبيرة ، وكبريائها أعظم من شموخ ذرى جبالها ، حملت بندقية الرفيق كلاشنيكوف ، اعتمرت كوفية الثائر الأرجنتيني تشي جيفارا ، وفاخرت زمنًا بانتمائها الى احرار العالم قاطبة . كان صوتها يملأ الآفاق قوة وجاذبية ، اهازيجها تشنف لها أذان الباحثين عن وطن تسوده العدالة والحرية ، انتفاضاتها مثار دهشة وإلهام لكل إنسان حُر مقاوم للجبروت والطغيان والضيم .
بلاد آثر أهلها مقاومة الظلم ونصرة المظلوم ، لكنهم يا للحسرة أخفقوا ، أو قولوا أخطأوا في نهاية المطاف ، سلموا الجمل بما حمل لمن تزمَّلوا المبادئ والوطنية والنزاهة زيفًا وتضليلًا ، فسرقوا الثورة ، واغتصبوا الحقوق ، ولبسوا بزِّة الطغيان ؛ فكان ولابد من بروز الوجه الدميم الذي لم يكن بحسبان اولئك الرجال المخلصين .
بلاد خذلتها النوايا الحسنة ، أعطت راية كفاحها لمن لا يستحقها ، كلَّلَّت أوشحتها الثورية اعناق السفهاء والانتهازيين واللصوص والقتلة ، وما أكثر هؤلاء السفلة الذين تربعوا سلم المجد فوق أشلاء ودماء القرابين المزهقة في سبيل الحق والعدل والمساواة والتنمية .
نعم ، انا من بلاد رئيس اضاع بوصلة السفينة والفكرة والوطن ، المجد المشرِّف الذي لم تخسره في أسوا الانتكاسات والكوارث ، فقدته الان بسبب حثالة امتطوا صهوة النضال والوطنية ، وهم اقرب إلى الوضاعة والنذالة وأكلة السحت . رئيس كل فعله إرضاء الإتباع والأقارب والموالين ، فضعنا وضاع كل شيء منا ، التاريخ ، والامل ، والحاضر . رئيس لم يحسن الاختيار لرجاله أو يحدد مسار وجهته ، فضاع وطنَّا ، وضعنا بحثًا عن لقمة وماء ومعاش زهيد وضوء ينير عتمة الليال المدجيات .
رئيس محاط ببطانة سيئة للغاية ، لا يرى ولا يسمع إلَّا صدى صوته أو أصوات سدنته. إذا ما قال له ناصحًا : أقاربك عبثوا ، اتباعك اغتالوا أو نهبوا ، لا يجوز أن تستلم انت واتباعك وجيشك بالنقد الأجنبي بينما آلاف الضباط والجنود والموظفين يتقاضون معاشات زهيدة وبالعملة الوطنية . أخذته العزة وصاح مستنكرا : أنا أعلم منكم جميعًا ، بهؤلاء الأبطال انتصرنا ، وبهم خضنا ووصلنا إلى مقامنا ، وبهم ناضلنا وقاتلنا وعلى الأرض استولينا ". رئيس أغرته السلطة والسطوة ، فنسى واجبه ، وغفل أن الوطن أكبر منه ، وان المواطن المخلص النزيه أعظم من جيشه وأتباعه ، وأن الدولة الظالمة زائلة مهما تراءى له أنها قوية وحصينة ، وأن الدولة العادلة باقية إلى قيام الساعة ، كغاية وقضية وحلم .
من بلاد ظلت رمزًا للإنعتاق والمقاومة من أجل الغايات والمبادئ العظيمة ، فأضحت الان مكانًا يلعنه ويشمت فيه الشامتين واللاعنين بحق أو بباطل .
بلاد بقت زمنًا طويلا قبلة للثائرين الأحرار من كل أصقاع الوطن ، وأضحت في زمن الرئيس والقائد والملهم ، لعنة تلهج بها ألسن الساخطين والغاضبين والحاقدين لا فرق .
أنا من بلاد كان حلمها تراه في عيون الثائرين مثل إشراقة شمس الصباح في رؤوس الهضاب والتلال أو شرفات المساكن ، مثل لمعان ابتسامة في شفاه الاطفال الأنقياء . مساءاتها صاخبة من وهج وحيوية النجوم الأحرار قبل نجوم الفضاء .
من بلاد ستفني زمنها القابل في ترميم وتحسين ما أفسده الربان وأعوانه الميامين ، فلم يبق شيئًا ذا قيمة وأهمية إلَّا وداسته بيادات الرئيس وأتباعه .
أنا من بلاد رئيس لا يشبه أيًا من الرؤساء السابقين أو اللاحقين ، فلا هو برئيس دولة استعادت سيادتها أو استقلالها ، ولا هو برئيس سلطة ذاتية ، ولا هو بنائب رئيس ، تأليفه عجيبة وغريبة لا نظير لها في قواميس السياسة أو الاعراف والتقاليد أو اللغة .
رئيس لا يشبه ايا من الساسة أو القادة ، فلا هو شبه الراحل ياسر عرفات ، ولا اصبعاه تشبهما ، أو أن " غزة اريحا اولا ' تماثل " عدن عاصمة الجنوب اولا ' . كما ولا يشبه مسعود بارزاني ، ولا اعتزازه بلبسه ومبادئه وكفاحه ، أو فيه علامة من المهاتما غاندي ، الكهل الهزيل البدن ، الزعيم بحكمته ورجاحة عقله وبساطة حياته ، فلم يورِّث ملك أو ثروة ، وانما سيرة عطرة ، وعنزة وعصا .
أنا من بلاد رئيس توافرت له فرصة تاريخية كيما يسمو ويكبر ؛ فيحكم اليمن الجديد الثائر من مدينة النور والتنوير ، وبروح العدالة والشراكة والتغيير ؛ فأبى إلَّا أن يطفو كغثاء سيل ، وإن ينكمش ويتلاشئ مثل فقاعات الصابون ، فتبدد اسمه ، وخسر الفرصة ، وذهب بريقه ، والنتيجة خسران مبين ، فلا من الجنوب ولا من اليمن .
من بلاد لم ولن تكون سنحان الجنوب أبدًا . نسخة لا يمكن مماثلتها ب " سنحان " الزعيم أو بجمهورية ابنائه وأتباعه ، أو أنها ستكون يومًا شبيهة ب " مران " سيدي حسين وأنصاره الجهلة والمخدوعين . من بلاد تنبت فيها الأحلام ويتخلَّق منها الأحرار بكثافة وبلا توقف أو محطات انتظار ، هي أقرب إلى متوالية هندسية ، بلاد تماثل المحيط الفسيح الضائق بكل ما هو قذر او نافق .
بلاد أكبر وأوسع من يتم اختزالها برئيس واحد واتباع عميان متعصبين باعوا وطنهم ومبادئهم بحزمة ريالات أو دراهم ، بلاد لا تتشرف بالخيانة أو الخذلان ، كما وتتبرأ إلى الله والناس أجمعين من شرور قطيع ذئاب آدمية ، تفتك ، وتأكل ، وتنهش وبلا رحمة أو وازع أو قانون .
بلاد حاضرة في وجدان وعقل وفكر الوطن الكبير ، بلاد لم تغب يومًا أو يمحى اسمها من سفر التاريخ الممهور بتضحيات ابنائها لأجل العدالة والمواطنة المتساوية والحياة الكريمة . قالت لا وألف لا في أعتى اللحظات خوفًا وقتامة، ولن يثنيها ترديد كلمة حق في وجه كل ظالم ومنافق ودجَّال .
بلاد لا تقبل الضيم ، لا ترضى بحياة الذل أو الخنوع ، لا تغتال الأحلام أو تكمم الأفواه ، لا تغتصب حق الآخرين . بلاد تؤمن بقيم الحرية والعدالة والمواطنة ، بلاد كبرت واتسعت بكفاح رجالها ونسائها ، بأحلام شبابها وطموحهم لبلوغ الأمنيات . بلاد ظُلمت مرَّات ومرَّات ، ظُلمت بسبب من ركبوا الثورة والاستقلال الأول ، وتُظلم الان بمن اعتلوا المناصب واستولوا على الوظائف والدرجات والمخططات وباسم النضال والقضية والثورة والاستقلال .
محمد علي محسن