لقد شغلني هذا السؤال منذ أن اكتشفت ظلما واقعا في جماعة دينية كنت منتميا إليها... ولم أصل إلى جواب قاطع، لكن بدأت تتبلور أفكار وخواطر أحببت أن أسجلها.
كنا في تلك الجماعة الدينية ننطلق من حقيقة أن الدين عند الله الإسلام، وكان تصورنا لأصل الإسلام منسجما مع العقل والفطرة، إذ نعتقد أن الكون هذا كله مفطور على نظام واحد، متعلق بمن أوجده سبحانه، فأول مسلم من مخلوقات الله هو أول مخلوق خلقه، وعلى هذا فإن الكون كله مسلم، وإنما سُمِّي كونا لأن الله قال له كن فكان.
وكنا نعتقد أن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام بُعث لتعزيز الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولم يكن هو مؤسس الإسلام، بل أول مسلم من البشر هو أبونا آدم عليه السلام.
وكنا نعتقد أن الأديان الموجودة على الأرض هي أديان انبثقت من الفطرة (الإسلام) ولكنها انحرفت عنها.. وبعد انحرافها صار المنتسبون إليها ضمن الأديان الباطلة، وسيذهبون إلى النار.
وكنا نعتقد أيضا أن الانحراف عن الفطرة (الصراط المستقيم) لم يتوقف ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، بل إن الانحراف لا زال مستمرا إلى قيام الساعة، وأن هذه الأمة ستنقسم على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
وبطبيعة الحال في سردية جماعتنا الدينية؛ فإن هذه الفرقة الناجية هم نحن، وأن بقية المسلمين الذين يشهدون لمحمد بالرسالة ولكنهم ليسوا على تفاصيل سرديتنا الدقيقة -التي لا يسع المجال لسردها- قد انحرفوا مثلما انحرفت الأمم السابقة.
فجأة، وبعد موت شيخ الجماعة، ننصدم بصدمة كبيرة، إذ وجدنا مشايخنا من الطبقة الثانية يختلفون اختلافا شديدا... لم أستطع فهمه في ذلك الوقت، غير أني الآن أراه على واقعه، فهو يندرج ضمن الاختلافات الدنيوية، يشبه تماما الذي يحصل بين أولاد الملوك والأمراء، أو أولاد التاجر والرعوي عندما يموت أبوهم، فيتنافسون على الوريثة... (وبالمناسبة إلى الآن المختلفون وأتباعهم لا يعترفون نفسيا بهذه الحقيقة، إلا على الطرف الآخر، وبمبالغة)
ولكن هذه الحقيقة الدنيوية ستلحق بالسردية الدينية، فإنه -وببروغاندا رهيبة جدا- سيُصنف هذا الاختلاف بأنه فتنة ابتلى الله بها المؤمنين ليختبر مدى ثباتهم على الدين..فإن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها..وبناء عليه سيُصنف هذا الاختلاف على رئاسة الجماعة الدينية ومواردها البشرية والعينية بأنه خلاف بين الضلال والهدى، بين السُّنة والبدعة، بين سالكي الصراط المستقيم الذي عليه الفرقة الناجية وبين المنحرفين عن هذا الصراط، الملتحقين بأهل الضلال، وأن الضُّلّال الجدد أشد ضلالا من الفرقة التي انحرفت عن الصراط قبلهم، وستتسلسل البروبوغاندا حتى يصير المنافسون على الوريثة أخطر من اليهود والنصارى.
إذا تأملتَ في الطوائف الدينية كلها، ستجد عندهم هذه العُقْدة المُركَّبة (بين مستقل ومستكثر) وهي، اعتقادهم أنهم أحباب الله الذين خلق الجنة لهم ابتداء، وأنه يوجد من كبرائهم من يتاجر بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، على قول القائل: (القبقبة للولي والفايدة لقيوم)
وعلى ما سبق فإنه يبدو أن هناك فرقا بين الإسلام والدين، فعلى قول الأصوليين بينهما عموم وخصوص:
فالإسلام دين، ولكنه دين الفطرة التي فطر الله عليها الناس، ولم يبدأ برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام .
والطوائف الدينية - قبل بعثة محمد وبعده- خليط من الفطرة، ومن الأطماع الدنيوية التي تستغل هذه الفطرة.
وهنا لابد أن نشير إلى فرق حقيقي بين زعماء الطوائف الدينية وبين الأنبياء عليهم السلام، فالأنبياء هم نوع سامٍ من البشر يعزّزون الفطرة دون أن تهزمهم أطماع الدنيا، ومن تأمل في سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يجد مصداق هذا، وهذا هو سر عظمته الخالدة، وقد كان في آخر حياته -وبما أنه بشر- قد ابتلي بين السمو الروحي وبين ما يصيب بعض زعماء الطوائف الدينية من الطمع الدنيوي، فاختار ما عند الله، فقد ورد في الحديث أن الله خيره بين أن يكون عبدا رسولا أو أن يكون ملكا نبيا فاختار ما عند الله..مرتبة العبد الرسول، ليكون أبا لجميع المسلمين بعده، وليس أبا لفاطمة والحسن والحسين وعلي بن أبي طالب فقط. وللأمانة فليس زعماء ومشايخ الطوائف الدينية سواء، فمنهم من تجده أقرب لأنبياء الله، وعلامة هذا النوع من العلماء الربانيين أن الواحد منهم لا يحرص على تجميع الناس حوله، ولا يهتم بالرئاسة، ولا يهاجم الآخرين من أجل زعامته الدينية، ولا ينشط بالتبديع والتضليل والتفسيق، ويعيش حياة الزاهدين في الدنيا. ✍️: عارف عَبِد