لم يدر في خلد المواطن الكويتي، حسن الفيلكاوي، أنه سيكون يوما ما بطلا لقصة أغرب من الخيال لا تصلح إلا رواية تُبنى عليها أحداث فيلم سينمائي.
بدأت قصة حسن المولود عام 1969، عندما أكمل دراسته الجامعية قبل أن يتوجه في 1996 إلى الولايات المتحدة للتسجيل في معهد لدراسة اللغة الإنجليزية تمهيدا لاستئناف دراساته العليا.
حجز حسن تذكرة إلى كاليفورنيا، حيث يقطن صديق له، حدد مدة الرحلة بـ5 أيام رآها كافية للتقدم بأوراقه إلى معهد اللغات، ومن ثم يعود بعدها إلى الكويت انتظارا لقبول التسجيل.
لكن حدث ما لم يكن بالحسبان؛ إذ تعرض حسن قبل تقديم أوراقه لإصابة في الرأس نتيجة حادث لم يرغب في الكشف عن حيثياته أو شرح تفاصيله، إذ إنه ما زال يعاني من آثاره حتى يومنا هذا.
فقد حسن الذاكرة، ونسي كل شيء يتعلق بماضيه، ولم يعد يتذكر حتى مكان حقيبته التي أودعها جواز سفره وجميع أوراقه الثبوتية وشهادته الجامعية.
نسيان تام
نسي حسن اسمه، ولم يتعرف على نفسه ومن يكون، ولا إلى أي دولة ينتمي، ولأنه على الأراضي الأميركية؛ فما كان من السلطات هناك إلا أن صنفته مهاجرا غير شرعي وحصل على هوية بذلك.
كانت لغة حسن العربية كفيلة بتطويقه من العرب من المهاجرين غير الشرعيين، وأغلبهم من الجنسيتين العراقية والمغربية والحنوّ عليه، وأطلقوا عليه اسم حسن حسن.
هام حسن على وجهه بحثا عن قوت يومه، فلم يجد سوى العمل بنظام المياومة في قطاع البناء والعمران، واستمر به الحال كذلك لأعوام.
لم تثبط هذه الظروف من عزيمة حسن، فأكمل دراسته في معهد للغات، واجتاز لاحقا اختبار المستوى الجامعي.
اعلان
ولأن مادة الرياضيات التي حصل على شهادتها من كلية العلوم في جامعة الكويت عالقة في ذهنه وعقله الباطن؛ فقد نجح في الامتحان، وحصل لاحقا على شهادة الماجستير.
أصبح حسن مدرسا بإحدى الكليات في كاليفورنيا؛ لكن براتب مقطوع، ولم يكن يملك منزلا، وفي 2005 تعرف إلى فتاة أميركية وتزوجها.
كوّن حسن أسرة ووقفت زوجته إلى جانبه، وكانت ملجأه من عثرات الزمان، وما تعرض له من مضايقات كثيرة على الأراضي الأميركية، ورزق بابنين وابنة.
طرق أبواب السفارات العربية
وخلال هذه السنين، اجتهد حسن كثيرا للتوصل إلى هويته، فكان يطرق أبواب السفارات العربية علّه يجد فيها من يجيب على تساؤلاته بمن يكون؟ وإلى أي أرض ينتمي؟
وفي يوليو/تموز عام 2020 أنشأ حسابا على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" لعله يعثر فيه على ضالته، فبات يبحث عن اسم "حسن حسن" وما إذا كانت هناك عائلة تحمل هذا الاسم علّه ينتمي لها، غير أن جميع محاولاته باءت بالفشل.
حلم مشاري البلام
ومع بداية عام 2021 رأى حسن في منامه صديق طفولته في جزيرة فيلكا الكويتية وزميل دراسته في الجامعة الفنان مشاري البلام -رحمه الله- لتعيد هذا الرؤيا لحسن جزءا من ذكريات الطفولة.
سارع حسن إلى "تويتر" محركا زر البحث عن اسم "مشاري صالح"، الذي كان يعرفه به دون عائلته "البلام"، ليصعق بنبأ مرور 3 أيام على وفاته.
وخلال مطالعته للحسابات، التي قدمت النعي للفنان الراحل واحدا تلو الآخر؛ استوقفه حساب شقيقه محمد الفيلكاوي، فأخذ يقلب صورته مرارا وتكرارا.
هذه الصورة أرجعت لحسن 90% من ذاكرته، ليستعيد معها المكان الذي كان قد خبأ فيه حقيبة أوراقه الثبوتية، ليهرع إليه، ويعثر على نفسه من جديد.
بداية العودة
سارع حسن بالذهاب إلى القنصلية الكويتية ليخبر موظفيها بقصته، وليبدأ الإعداد لرحلة عودته إلى أرض الوطن بالتنسيق مع وزارة الخارجية.
وبالتزامن مع ذلك بعث حسن برسالة إلى شقيقه؛ لكنه لم يتلق أي جواب ما دفعه للتدقيق بقائمة أصدقائه في تويتر، ويعثر على حساب نجله جاسم.
جاسم كان بمثابة رفيق درب لعمه حسن، حيث لم يكن يكبره سوى بعامين، وزامله أثناء الدراسة الجامعية.
ذُهل جاسم عندما وقعت عيناه على رسالة من عمه يخبره فيها بأنه ما يزال على قيد الحياة.
فجاسم وأعمامه وجميع أفراد عائلتهم ظلوا لسنوات وسنوات يبحثون عنه، ولم يتركوا بابا إلا وطرقوه طلبا للمساعدة في العثور على عمهم، الذي انقطعت أخباره حتى ظنوا أنه مات.
يروي جاسم أنه لم يصدق أن عمه حسن على الجانب الآخر من الهاتف من هول المفاجأة، فلكنته العراقية التي تأثر بها من أصدقائه، زادت شكوكه في أنه يتعرض لـ"مقلب" ما.
لكن شكوك جاسم تبددت عندما ذكّره عمه بتفاصيل دقيقة جمعتهما معا، ليتأكد معها من أن محدثه ليس سوى عمه حسن، وبات وجميع أفراد العائلة يعدون الساعات والدقائق لاستقبال الغائب الحاضر.
رحلة العودة إلى الكويت
سهلت وزارة الداخلية الكويتية عودة حسن وأفراد عائلته، ولم يتسن سوى لشقيقه وشقيقاته الثلاث استقباله في مطار الكويت الدولي التزاما بالاحترازات الصحية التي فرضتها جائحة كورونا.
يقضي حسن وعائلته الصغيرة الحجر الصحي المؤسسي حاليا في أحد فنادق الكويت انتظارا للعودة إلى أحضان العائلة الكبيرة، تماما كما عاد إلى أحضان وطنه الأم بعد غربة استمرت 25 عاما كانت بمثابة غربتين له في ظل فقدان ذاكرته، ليبدأ فصلا جديدا من حياته؛ ولكن هذه المرة بدون والدته التي توفيت في 2020، وظلت حتى لحظاتها الأخيرة تردد اسمه، وتؤكد للمحيطين بها أن شعورها كأم يخبرها بأن حسن ما زال على قيد الحياة.