كثيرًا ما وجدتُ ذاتي في نقاشٍ عبثيٍّ سفسطائيّ. كأنَّ الواحدَ إزاءَ أخشابٍ مُسندةٍ إلى جدارٍ عتيقٍ من القصصِ والرواياتِ المؤلمةِ التي يفترضُ نسيانُها ، أو على الأقلِّ أنها أضحتْ ماضيًا ولا جدوى من إعادةِ سردِها.
ويقينًا أنَّ هذه البلادَ لا ينقصُها المروياتُ الموجعةُ، وإنَّما يستلزمُها مَن يُحدِثُها بشجاعةٍ عن تاريخٍ جديدٍ ينبغي أن يكونَ غايةً ومسعىً للسُّاسةِ والنُّخبِ وعامَّةِ الشعبِ.
ليس هنالكَ ما هو أسوأُ من استجرارِ أو تناسخِ التواريخِ المؤلمةِ القاتلةِ لأيِّ محاولةِ استنهاضٍ لبلوغِ الغاياتِ الكبيرةِ. المؤسفُ أنَّ رهانَنا ما زالَ على مَن أضاعَ البلدَ وأهلَهُ.
اعتقدنا زمنًا أنه بمقدورِ الساسةِ أن يكونوا أدواتٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ، وإذا ما فقدوا هذه الفاعليةَ والتأثيرَ فهناكَ بدائلُ وخياراتٌ تتمثَّلُ بالنُّخبِ السياسيةِ والفكريةِ الحاملةِ لواءَ التغييرِ. الحقيقةُ المُرَّةُ أنَّ هؤلاءِ أخذَهُم طوفانُ المنافعِ الضيِّقةِ، كان يمكنُ أن يكونوا حَمَلةَ مشاعلَ تثويرٍ وتنويرٍ لمجتمعِهم البائسِ الذي يرومُ وطنًا بديلًا نقيضًا لبلادٍ لم تعرفِ الاستقرارَ من آلافِ السنينِ.
لكنَّهم أبَوْا إلَّا المضيَّ في الصراعِ على سلطةٍ وجاهٍ ومالٍ وسلاحٍ، انكفأوا على ذواتِهم ومصالحِهم الضيِّقةِ، اختزلوا الوطنَ والوطنيةَ بشعاراتٍ جوفاءَ أنانيةٍ، وفي موالاةٍ رخيصةٍ لا تبني وطنًا أو تحقِّقُ عدالةً، بقدرِ ما تكرِّسُ منطقَ الهيمنةِ والوطنِ الغنيمةِ.
هذه النخبُ السياسيةُ والفكريةُ لم يعد اهتمامُها مكرَّسًا للشأنِ الوطنيِّ، وإنَّما اهتمامُها قلَّ وانحصرَ في علاقاتٍ ومصالحَ ذاتيةٍ، وفي إشاعةِ ثقافةِ البُغضِ والثأرِ، وفي وقتٍ عصيبٍ لا يحتملُ المزيدَ من الشحنِ والتعبئةِ الخاطئةِ، وقتٍ يبحثُ فيه النَّاسُ عن لقمةٍ وضوءٍ وأمانٍ.
وهؤلاء جميعًا وبلا استثناءٍ - إلَّا مَن رحمَ ربي - تركوا وطنَهم فريسةً للفوضى وشرعِ الغابِ، ووسطَ هذه الحالةِ العبثيةِ لم نعد نرى غيرَ أدواتِ القتلِ والهدمِ والتخريبِ لكلِّ شيءٍ، فلم يسلمْ من هذه الحالةِ حتى الأشياءُ الجميلةُ والقيمةُ.
أقصدُ هنا أنَّ العبثَ طالَ المشتركاتِ الجمعيةَ كالدينِ والتراثِ ووشائجِ الإخاءِ والتسامحِ والمنافعِ والتاريخِ والكفاحِ لإحلالِ العدالةِ والمساواةِ والحياةِ الكريمةِ وحتى المستقبلِ الذي يُعبَثُ بهِ، وبغباءٍ وسذاجةٍ وجهلٍ لا نظيرَ لهُ في تاريخِنا المعاصرِ.
أصدقُكم أنني صُدِمتُ مما سمعتُه أو قرأتُه، قليلًا ونادرًا ما صادفتُ شخصًا أو كيانًا حاملًا لقيمٍ ومبادئَ تُجِلُّ الحقَّ العامَّ، وتعظِّمُ الحياةَ الإنسانيةَ. وأنتَ تشاهدُهم، ينتابُكَ الفزعُ، كائناتٌ غريبةٌ لا تشبهُنا، كأنكَ إزاءَ فِتيةِ أهلِ الكهفِ، ناموا ثلاثةَ قرونٍ وعندَ صحوتِهم لم يعثروا على قومٍ كانوا يومًا جزءًا منهم، الفارقُ أنَّ فِتيةَ الكهفِ أناسٌ صالحونَ.
مراتٍ كثيرةً فتحتُ نقاشًا مع أناسٍ طالما عرفتُهم حاملينَ لرايةِ الدولةِ الوطنيةِ الحديثةِ، لا جديدَ في جُلِّ نقاشِهم أو أحاديثِهم. يجمعُهم الحديثُ عن أحداثٍ وشخصياتٍ ماضويةٍ، أو هكذا يجبُ تعريفُها في مفرداتِ الحاضرِ.
يعيدونَ ويكرِّرونَ ويستجرُّونَ ما ينبغي تجاوزُه ونسيانُه. يظنُّونَ أنفسَهم أنبياءَ أو أنَّهم رُسُلُ حقٍّ وطُهْرٍ وإنقاذٍ . لا أحدَ منهم بوسعِه التعاطي مع مشكلاتِ وأزماتِ الحاضرِ بمنظورٍ وطنيٍّ حداثيٍّ مستقبليٍّ. كيف لا وجميعُهم ضحايا، وجميعُهم أدمنوا دورَ الضحيَّةِ الراغبِ بالثأرِ والانتقامِ والغنيمة ..
محمد علي محسن