* موظفون: الانتقالي شريك للشرعية في تجويع الناس وعليه تصحيح الشراكة أو تحمّل تبعاتها
أوصلت حكومة الشرعية اليمنية وشريكها المجلس الانتقالي، الجوع إلى كل بيت في عدن وباقي محافظات الجنوب، فبدلا من روائح الزربيان والصانونة والصيادية التي كان يشمّها العابر من أمام أي بيت في عدن صرنا نشم اليوم روائح المعاناة والألم، ونتشمم القصص المأساوية التي يكابدها الناس داخل بيوتهم فبدأت تغادر عتبات البيوت إلى العلن كحالة عامة ووضع كارثي لم يعد معه المتعففون وذوو الكرامة قادرين على الصمود أكثر.
العاصمة عدن وباقي محافظات الجنوب ومعهما ما تُسمى بـ"المحررة" من مناطق الشمال، تعيش، هذه الأيام، أسوأ مراحلها وأعنف أزماتها؛ إذ وصل الحال إلى سحق كرامة المواطنين واستهداف المتعففين إلى داخل منازلهم لإجبارهم على التنازل عن العفة والكرامة مقابل إطعام أطفالهم أو مقابل البحث حبة دواء.. فخلال العامين الماضيين أكلت أسر متعففة من مقالب القمامة وأُجبر موظفون حكوميون على التسول والأعمال الشاقة، والمرتبات مازالت حينها تصرف لكنها لا تفي بشيء.. فيكف سيكون الحال اليوم والمرتبات توقفت تماما؟!
شهران متتاليان ودخلنا في الثالث والموظفون الحكوميون بلا مرتبات... شهران فقط كانت كفيلة بإظهار حال الناس ومستوى معيشتهم وادخاراتهم ومخزونهم الغذائي.. ثلاثون يومًا كشفت المستور وفضحت المتعفف وكسرت الكبرياء وهانت الكرامة، حيث وصل الفقر والجوع إلى بيوت الموظفين الحكوميين الذين كانوا يكابدون العيش ويعانون الحاجة بفتات الراتب بصمت وألم كي لا يأكلون من "الكداديف" كغيرهم ممن لا رواتب لهم ولا وظائف حكومية.
في السطور التالية قصص معاناة مما رواها مواطنون بعدن لـ صحيفة "الايام" التي رأت حجب أسمائهم حفاظا على تبقى من كرامتهم لعل وعسى أن ننقل لسياسيي البلاد ما يكابده المواطنين.
في حي راق بالعاصمة عدن، كانت المعلمة (....) وزوجها (....) يعيشان في منزل متواضع يحوي عائلتهما المكونة من ثلاثة أطفال، يعمل الزوجان كمعلمين في مدرسة حكومية، لكن انقطاع المرتبات منذ شهرين جعل حياتهما أشبه بكابوس لا ينتهي. حاول المعلم وزوجته مقاومة الصعوبات، معتمدين على مدخرات شحيحة جمعوها بصعوبة. كانا يتشاركان كل شيء، حتى أقصى شعور بالجوع، كي لا يشعر أطفالهما بوطأة الحرمان. لكن مع مرور أيام شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، بدأ صبرهما يتآكل، وبدأت الحياة تضيق عليهما.
في إحدى الليالي، جلس المعلم وزوجته في غرفة مظلمة بعد أن انطفأ النور بسبب انقطاع الكهرباء المتكرر. قالت المعلمة، -وهي تحاول إخفاء دموعها- تهامس زوجها: "البنت تبكي كل ليلة لأنها تريد قلص حليب. لم أستطع اليوم حتى شراء الخبز لهم.". تنهد المعلم بعمق، وحاول أن يبدو متماسكًا رغم انهياره الداخلي، وقال بصوت خافت: "سأبحث غدًا عمن أستدين منه، با شوف أحد الأصدقاء يمكنه مساعدتي."
عند الصباح، خرج المعلم، وهو يشعر بالذل لأول مرة في حياته. توجه إلى أحد أصدقائه القدامى، ولكنه تفاجأ بردود باردة تملؤها الأعذار الخجولة والمواقف المحرجة. ثم لجأ إلى آخر، فثالث، لكن النتيجة كانت دائمًا واحدة: "آسف، ياخي، الظروف صعبة على الجميع".
في الوقت نفسه، قررت الزوجة المعلمة، التي لم تعد تستطيع الصبر، أن تزور أهلها. حملت في يدها حقيبة قديمة بها بعض ملابس أطفالها، وطرق قلبها خجلًا وهي تقف أمام باب منزل أبيها. عندما فتحت أمها الباب، انهارت المعلمة بين ذراعي والدتها قائلة: "أمي، لا أملك شيئًا، أطفالي جياع ساعدوني، أرجوكم."
لم تكن الكلمات تخرج بسهولة؛ كل حرف كان ثقلًا يهشم كرامتها. شعرت المعلمة وكأنها مكسورة الجناح، عاجزة عن توفير أبسط حقوق أطفالها، فعادت إلى بيتها تحمل كيسًا صغيرًا من الطعام أعطاها إياه أهلها، بينما الزوج عاد يقلب كفيه مكسور الجناح، يحمل في عينيه انكسارًا لم يسبق لها أن رأته فيه. جلسا معًا تلك الليلة، يتحدثان بصمت. كرامة الوظيفة الحكومية التي ظنا يومًا أنها حصنهما الأخير تحولت إلى ذكرى بعيدة، وتحولت إلى مصدر للجوع والفقر وقسوة الحياة.
في تلك اللحظة، أدرك الزوجان اللذان خدما في مجال التربية والتعليم عشرات السنين أن الحكومة التي قطعت المرتبات لم تسرق فقط استقرار حياتهما، بل سرقت أيضًا شعورهما بالإنسانية، وجعلت من الكرامة في عدن سلعة نادرة.
في زاوية غرفة صغيرة بأحد أحياء عدن الشعبية تتجلى مأساة أخرى ومعاناة من نوع آخر خلفها قطع مرتبات الموظفين.. في هذه الزاوية يجلس "محمد" يحدق في كتبه الجامعية التي اعتاد أن يملأ أيامه بمذاكرتها. لكن ذلك اليوم كان مختلفًا. لم تكن عيناه تلتقط الكلمات، بل كانت تحمل حملاً أثقل من الأوراق التي أمامه. فقد مر أسبوع كامل دون أن تطأ قدماه الجامعة، والسبب كان بسيطًا لكنه مؤلم: لم يكن لديه ما يكفي لدفع أجرة المواصلات؛ والسبب أن والد محمد موظف حكومي، يتقاضى راتبًا بالكاد يغطي احتياجات الأسرة. لكن في الأشهر الأخيرة، توقف الراتب فجأة، كما هو حال كثير من الأسر في عدن. أصبحت الأيام أصعب، والأحلام أكثر بعدًا. حاول محمد البحث عن عمل، لكن الظروف لم تكن رحيمة به.
كان محمد يحرص على ألا يعلم أحد من زملائه بما يمر به. كلما اتصل به أحدهم مستفسرًا عن غيابه، كان يتحجج بأنه مريض أو يختلق أعذارًا واهية. فهو لا يريد أن يرى في أعينهم نظرة الشفقة التي كان يخشاها أكثر من أي شيء آخر.
ذات يوم، بينما كان محمد جالسا في غرفته يتأمل ما تبقى من أمله الممزق، رن هاتفه. كانت زميلته التي لم تكن تعرف الكثير عنه لكنها لاحظت غيابه المتكرر. قالت "أني زميلتك...، أني قلقة عليك. أيش حصل معك؟"، قالت ذلك بصوتها المليء بالصدق. حاول محمد التهرب كعادته، لكنه شعر هذه المرة بأن صوته قد خان صلابته "أنا بخير، مجرد ظروف بسيطة وستمر."
لكن زميلته لم تكن ممن يقتنع بسهولة. "ظروف بسيطة لا تجعلك تغيب أسبوعًا عن الجامعة. إن كنت بحاجة لأي شيء، نحن أصدقاؤك، وسنكون بجانبك."
أغلق محمد المكالمة بسرعة قبل أن تتسرب دموعه إلى صوته. لم يكن يريد المساعدة، كان يريد فقط أن يعود الزمن إلى ما قبل هذه الأزمة، حيث كان بإمكانه أن يعيش بشرف وكرامة دون أن يشعر بثقل الحاجة.
حال محمد والمعلم وزوجته هو حال كل الموظفين الحكوميين في محافظات الجنوب لاسيما العاصمة عدن التي يعتمد أبناؤها في معيشتهم على المرتب الحكومي، ما دفع كثيرًا من الموظفين إلى بيع ممتلكاتهم الشخصية، بما في ذلك الأثاث المنزلي والمقتنيات الثمينة، لتوفير الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم. كما أجبرت هذه الظروف الصعبة بعض الأسر على مغادرة المدينة بحثًا عن حياة أفضل في مناطق أخرى.
حال الناس جراء توقف المرتبات وانهيار المعيشة يشير إلى مخاوف متزايدة من انفلات أمني وفوضى محتملة قد تشهدها عدن، نتيجة حالة الاستياء الشعبي المتصاعدة والغضب الناجم عن عجز الحكومة الشرعية عن صرف المرتبات. في المقابل يزيد صمت الحكومة حيال أسباب هذه الأزمة من إمكانية انزلاق العاصمة عدن إلى مزيد من الاحتقان الشعبي والفوضى.
المجاعة في عدن والجنوب بشكل عام تهدد بثورة شعبية ضد حكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي. ويحمل مواطنون المجلس الانتقالي المسؤولية الرئيسية عن تفاقم هذا الوضع، "كونه الجهة المسيطرة فعليًا على الأرض في عدن والمحافظات الجنوبية".
مطالبين الانتقالي "باتخاذ موقف حاسم وواضح من شراكته مع حكومة الشرعية"، فإما أن يقف في صف المواطنين ويعمل على توفير مرتباتهم وتحسين الأوضاع المعيشية، أو يتحمل عواقب الاستمرار في هذه الشراكة التي وصفها البعض بأنها "على حساب معيشة الناس ومعاناتهم".
وفيما يقول مواطنون غاضبون إن المجلس الانتقالي شريك للحكومة في تجويع أبناء عدن والجنوب، دعت قطاعات مدنية واسعة المجلس الانتقالي إلى "إعلان فك الشراكة مع الشرعية وتحمل المسؤولية الكاملة عن إدارة الشؤون الاقتصادية ودفع المرتبات".
أحد الموظفين الذين توقفت مرتباتهم قال: "على المجلس الانتقالي إعلان فك الارتباط، والنتائج لن تكون أسوأ مما نحن فيه الآن. يجب الوقوف في صف الشعب، لأن الوضع الحالي لا يُحتمل".
في المقابل، أعرب موظف آخر عن يأسه من أي مشروع سياسي يساهم في زيادة معاناة المواطنين، قائلًا: "أي مشروع سواء كان شراكة أو وحدة أو انفصال يجوع الشعب ويزيد معاناتنا لن نقبل به. نريد أن نعيش بكرامة".