أي مقاربة سياسية للحالة اليمنية يصعب عزلها عن سياقها الأقليمي . فلا يكفي أن يمتلك الساسة اليمنيين رؤية سياسية وطنية ، إذ لابد الأخذ بالحسبان رؤية الأشقاء الخليجيين - خصوصا السعودية والإمارات - لما هية اليمن المنشود مستقبلا ! .
السؤال الجوهري والمهم الذي ينبغي أن تطرحه السلطة الشرعية ممثلة بالرئيس رشاد العليمي ، وكذا الأطياف السياسية والحزبية والنخبوية على الأشقاء في السعودية والإمارات تحديدا :
هل هما مع مبادرتهم الخليجية السياسية بإعتبارها حجر أساس ما أطلق عليها المرجعيات الثلاث ؟! أم أن الدولتين داعمتين لخيارات جديدة طرأت لهم بعد عشرة أعوام من الحرب ؟! .
هذا السؤال لم يأت جزافًا وإنما هو وليد أفعال وإجراءات عسكرية وأمنية تمت خلال الأعوام الفارطة ، وهذه الأفعال تصادمت مع رؤية السلطة الشرعية المعنية باستعادة الدولة اليمنية ، بل واضعفت دورها وجعلتها مسلوبة الإرادة والقرار في الواقع ، والأخطر أن دعم التحالف جر البلد برمته إلى مساحات ضيقة ، ومسارات وابعاد مختلفة ومتعددة .
ففي الوقت الذي رأينا فيه الدبلوماسية والإعلام والاقتصاد والناحية الإنسانية داعمة شكلا للسلطة الشرعية ، بالمقابل كان هنالك دعما عسكريا وأمنيا مقوضًا للسلطة الشرعية ممثلة بالرئاسة والحكومات المتعاقبة ، وكذا لسلطات الدولة الأخرى القضائية والتشريعية .
هذا الدعم المالي والعسكري واللوجيستي المتدفق للداخل باسم دعم الشرعية عمل على تقوية مكونات مليشاوية إجتماعية وسياسية ودينية وجهوية مناهضة لسلطات الدولة ومؤسساتها النظامية المعترف بها إقليميا وعربيا ودوليا .
ونتيجة لدعم الدولتين الشقيقتين لجهات وجماعات تستظل بمظلة الشرعية دونما ولاء لها ، أو لفكرة الدولة اليمنية الجديدة المنقلب عليها ؛ وجدت سلطات موازية ، وبتغذية ادواتها بالمال والعتاد صارت سلطات أمر واقع .
وما كان ذلك سيحدث لولا دعم هذه المكونات بالسلاح والمال ، ما مكنها من استحداث مليشيات عسكرية وأمنية ، مقوضة بذلك المؤسستين العسكرية والأمنية النظامية .
وباحلال قوة عسكرية وأمنية غير نظامية محل مؤسستي الجيش والأمن اللذين هما أساس قوة ونفوذ السلطة الشرعية ، تم السيطرة على المحافظات المحررة . وما كان هذا التمكين سيحدث لولا أن الأشقاء عملوا وتماهوا في الواقع مع فكرة تجميد مؤسستي الجيش والأمن .
وهذا الإنفاق المالي والعتادي واللوجيستي على هذه المليشيات ، جعلها موضوعيا قوة مسيطرة مستحكمة بمؤسسات كان مفترضا أنها تجسد الدولة اليمنية ، وتعد أداة في يد السلطة الشرعية .
وما يجب معرفته ان الدعم المالي لهذه المكونات الطارئة ، مثلت ضربة قوية أصابت صميم السلطة الشرعية ، وهي في بداية تشكلها ، فقطع إمدادات القوة في ظرفية عصيبة كتلك الفترة التالية للتحرير كان له الدور الأبرز في إضعاف سلطة الدولة ، وفي مرحلة حرجة وحاسمة هي بمسيس الحاجة لهذه القوة التي تمكنها من السيطرة وبسط نفوذها وسريان قرارها .
ومن أبرز الأمثلة على هذه الحالة الناتجة عن دعم مسارات وجهات خارج سياق غاية استعادة الدولة ان ألوية الدولة باتت قوة خارج سياق الخدمة الفعلية ، فالعميد أو العقيد أو الضابط أو الجندي في الجيش النظامي يتقاضى منذ مرتبا شهريا يتراوح بين ٢٠٠ - ٦٠ الف ريال يمني ، ما يوازي ١٠٠- ٣٠٠ ريال سعودي كحد أقصى، وفي وقت الجندي أو الضابط المستجد يحصل على ١٠٠٠ - ٢٠٠٠ ريال سعودي ..
وعلى هذا الأساس لا يمكن إيجاد مقاربة سياسية بين فرقاء الفعل السياسي دون التزام الأشقاء برؤية الدولة اليمنية الاتحادية، وتوجيه كافة موارد الدولة المالية ، وكذا المنح والهبات والقروض إلى حسابات الجهات الرسمية المستفيدة في البنك المركزي اليمني .
كما وهذه المقاربة السياسية لن تتم بعزل رئيس حكومة والاتيان باخر ، أو بتعديل وزاري ، أو بمجلس رئاسي أو من خلال اتفاقات مكتوبة بين مكونات الشرعية ، وإنما لابد من توافر شرطية امتلاك القرار بيد الرئاسة والحكومة .
وهذا ما لم يتحقق طوال الأعوام العشرة الماضية ، وعلى العكس من ذلك فالسلطة الشرعية نزع منها أهم عامل يجسد نفوذها الا وهو القوة ؛ ولأنها فقدت القوة منذ الوهلة الأولى لتشكلها فلقد بقت سلطة الدولة في حالة دائمة من الأضعاف والانحسار إلى أن فقدت تماما سيطرتها وقدرتها على فرض إرادتها السياسية وبسط نفوذها على عموم المحافظات المحررة .
ولم يكن الأمر وليد اللحظة أو الصدفة ، وانما تجلى هذا التمكين لجماعات وقوات لا تتوافق سياسيا مع رؤية السلطة الشرعية منذ لحظات ما بعد التحرير لعدن ، فبدلا من تقوى شوكة الشرعية ويتصاعد دورها وتمسك بزمام كافة سلطات ووظائف الدولة ، أجبرت على سلوك خط منحني أفضى بها إلى الهامش .
وإزاء هذه الوضعية الناتجة عن انهيار الدولة ومؤسساتها وسلطاتها وبروز اشكال ومكونات ما قبل الدولة ؛ لابد من توافر عامل مهم وحاسم يصحح الحالة الراهنة ، وذلك بالضغط المباشر على المكونات المتناثرة ، وإجبارها على المثول لسلطة واحدة ، وحكومة واحدة ، وقرار واحد ، لدولة واحدة .
وهذه الدولة المنشودة يجب أن تكون نقيض الدولتين الشطريتين قبل التوحد ، وعلى أنقاض الدولة الواحدة بشكلها السياسي المركزي ، دولة اتحادية مركبة بشكلها المتفق عليه في مؤتمر الحوار الوطني .
وبما أن أغلب المكونات الممثلة في المجلس الرئاسة أضحت جماعات وقوى متناثرة ومتصادمة ، ناهيك عن كونها لا تملك قرارها بحيث يمكنها فرضه على الآخرين ولو باستخدام القوة والعنف ؛ فإن أي معالجة لهذه الحالة الشاذة لا يكون بغير إزالة أسبابها .
ما نراه الآن من تعقيدات سياسية هي نتاج لمقدمات خاطئة ، وهذا الأخطاء منها ما زال عفويا نتيجة زوال ظروفه ، ومنها ما هو بسبب حروب وصراعات وخلافات سياسية وعسكرية سابقة .
ودونما محاولة جادة لقطع هذا الحبل السري المغذي لهذه الكائنات الجهوية والعسكرية والفئوية والمذهبية ، فإنها باقية ومستمرة ومعطلة لكل خيار او اتفاق أو مبادرة أو سلطة .
فإذا كانت المليشيات الانقلابية فرضت سلطة الأمر الواقع في صنعاء وجوارها بحكم استفادتها من دعم النظام الإيراني ، ومن ضعف وتفكك جبهة الشرعية ؛ فإن السلطة الشرعية المناهضة لسلطة المليشيات وجدت ذاتها في ظروف مماثلة تخلقت منها مليشيات مماثلة ، وإن اختلفت الغايات والشعارات .
هذه المليشيات الطفيلية انتفعت من السلطة الشرعية حتى تضخمت وسيطرت وأضحت لها سلطة وقوة ،تتقاطع كليا مع ولاء وغاية السلطة المفترض بها استعادة الدولة اليمنية والقضاء على المليشيات الانقلابية .
وما هو مؤسف أنه وكلما زادت سطوة المليشيات كان على حساب الدولة اليمنية المنشودة ، وعلى حساب سلطتها التي تمثل روح الإنتقال السياسي الذي ينشده غالبية اليمنيين .
فهذه المكونات لن تأتي بدولة من أي نوع ، كما ولن تكون يوما ما سلطة يعتد بها ، بقدر ما هي مبددة ومستنفدة قدرات وإمكانيات الدولة في معارك وصراعات عنيفة ، وكل ما نراه الآن من أزمات اقتصادية وخدمية هو نتاج لتغول المليشيات وقادتها على الدولة وسلطاتها ..
الدولة ليست فكرة مثالية مستوطنة أذهان النخب أو عوام الناس ، كما ولن تكون مجرد سلطة عالقة في الخارج أو حروف مكتوبة في ميثاق أو دستور ، أو شعب نصفه يكابد لأجل البقاء ، ونصفه الآخر ما بين محارب أو نازح أو مشرد إ
إنَّها كيان متماسك وجامع ولا يستقيم دونما قوة ضامنة وحامية له ، واي حديث عن استعادة الدولة اليمنية دون امتلاك هذه القوة يعد مجرد عبث وإنهاك مضاعف .
الخلاصة كافة المكونات المغردة خارج إطار أجمعت عليه مختلف القوى الوطنية اليمنية ، تعد كائنات طفيلية نشأت من اعتمادها كليا وليس جزئيا فحسب على الإنفاق المالي الآتي من الدولتين .
على الأشقاء التوقف عن دعم كيانات قبلية أو جهوية أو مذهبية أو فئوية لا تؤسس لغير الفوضى ، والمزيد من العنف والأزمات المهدرة لفرص اليمنيين في إنهاء الحرب وتحقيق السلام الدائم ..
نعم ، لا سلطة شرعية ، ولا دولة يمنية اتحادية ، ولا مرجعيات ثلاث ، ولا معالجات اقتصادية ، ولا تحسن للخدمات ، ولا استقرار للعملة ، ولا يحزنون ، فكل ما يكتب ويعلن ويتوافق عليه مجرد أوهام لا حيز لها من الواقعية والموضوعية .
والحل لهذه الحالة اليمنية لا يأتي من مجلس الأمن أو من المبعوث الدولي ، أو من امريكا او الرباعية ، وانما الحل بيد الدولتين الداعمتين السعودية والإمارات .
دعم الدولتين الفاعلتين في الشأن الداخلي اليمني - السعودية ، الامارات - ينبغي أن يكون لخيار الدولة اليمنية الاتحادية ، شكلا ومضمونا ، ودونما تزويغ أو تسويف او حسابات سياسية أو نفعية ، أو بعيدا عن المضامين المتوافق عليها غالبية المكونات السياسية والحزبية والاجتماعية والفئوية والجغرافية .
وما لم تلتزم الدولتين بهذا الأمر ، فإن اليمن واليمنيين من سيء الى اسوأ ، ومن يظن أنه يمكن البناء على هذه المقدمات الخاطئة ، أجزم أنه يعيش في كوكب اخر ، وفي بلد آخر غير هذا الذي نعيش فيه ونعاني من مشكلاته وأزماته ..
محمد علي محسن