عبدالرب السلامي
عبدالرب السلامي

قراءة سننية في صراع الأقطاب!

من مصلحة الأمم النامية والقوى الصاعدة أن تتعدد الأقطاب الدولية، وأن يبقى توازن القوة قائمًا بينها؛ إذ يتيح ذلك هامشا من الحركة وفرصا لبناء الذات، ويفتح نوافذ للعبور والصعود، وتشكيل المشاريع المستقلة كطرف ثالث.

 

أما إذا صفيت الساحة الدولية لطرف أوحد، وانفرد بالهيمنة العالمية، فإن الغلبة المطلقة ستفضي إلى مزيد من الطغيان والوحشية؛ إذ يتحول القطب المنتصر إلى "طاغوت العصر"، لا يردعه رادع، ولا يحتاج إلى التخادم مع أحد، بل سيعمل على تجريف هويات الأمم، ويسحق المشاريع الناشئة، بلا تردد. وهذا هو جوهر الفساد في الأرض، كما أشار إليه القرآن الكريم: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

 

لقد أدرك المسلمون الأوائل، وهم في مكة، هذه السنة الكونية؛ فاستشعروا خطر اختلال توازن القوة بين قطبي العالم أنذاك، فارس والروم، فحزنوا لهزيمة الروم، ليس حبا في الروم، ولكن لمعرفتهم كم هو خطر التحديات التي ستواجههم، وتواجه البشرية، في حال تفرد قطب أوحد بقيادة العالم.

 

لكن سرعان ما زال عنهم الحزن بوعد الله بعودة الثنائية القطبية، بتغلب الروم مجددا (وهم من بعد غلبهم سيغلبون، فِي بِضْعِ سِنِينَ). 

 

تأمّل كيف سمّى الله عودة الثنائية القطبية، وتوازن الهزيمة بينهما نصرا للمؤمنين: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه)!.

 

لقد كان المسلمون يدركون أن بقاء الصراع بين القطبين، يمنح الدعوة الناشئة في قلب جزيرة العرب، فرصة للبناء والصعود، فسابقوا الزمن لاقتناصها، حتى تحقق لهم التمكين خلال بضعة عقود.

 

لقد استفادوا من الفرصة، وعاشوا أجواء الصراع الدولي، حزنوا وفرحوا، وانحازوا وخاصموا وراهنوا، لكن دون أن "يتكيسروا" أو "يتقيصروا"، أي أنهم لم يذوبوا في مشروع قيصر أو مشروع كسرى. 

إنه فقه سنني ملهم، ما أحوجنا إلى استيعابه اليوم، في زمن اختلطت فيه مفاهيم النصر والهزيمة.