في قريتنا كان هناك بقرة ، صاحبتها امرأة طيبة ندعوها ب " أمُّ محمد " ، وأعتادت يوميًا ، ومع بزوغ فجر جديد ، إيصال قناني اللَّبن إلى بيوت جيرانها .
كما وفي بعض الأوقات ، رأيناها تهرع بحليب بقرتها لتُسكِت بطن طفل باك جفَّ ضرع أمُّه ، أو تبعث بقنينة سمن لهذا أو ذاك ؛ نظير معروف ، أو عطية منها وبنفس صافية راضية .
وهكذا بقينا ، ننظر لأم محمد وبقرتها المعطاءه ، باعتبارهما جزءًا من حياتنا اليومية ، ولحد أنه لا يخلو بيتًا من التضرع والصلاة ، إمتنانًا وعرفانًا لهما .
ومعهم كل الحق ، فالبقرة باتت رمزًا انسانيًا واقتصاديًا وسياسيًا تضاهي بقر هولندا ، شهرة وأهمية ، ومن فرط محبتنا واعجابنا بهذه الكائنة المدرارة وصف أحد الخبثاء أهل القرية بالهندوس .
ومعلوم أن هذه الطائفة الهندية تُقدِّس البقرة ، فتتبرك بمخلفاتها ، وتُحرِّم أكل لحمها ، اعتقادًا منها بعظمة هذه المخلوقة الدالة على الخير والخصوبة والحياة والنماء .
المهم ، عاش أهل القرية بسلام ووئام ، ودونما يوجد ما يعكر صفو حياتهم ، فلم يكن بخلد أكثر المتشائمين أن يأتي يومًا فينبأ باختفاء بقرة أم محمد ، فكيف إذا ما قلنا بسرقتها ؟.
لهذا نزل خبر اختفاء البقرة من حضيرتها كالصاعقة على رأس المرأة وجيرانها ، فلم تنم القرية في ذينك اليوم المشؤوم ، حزنًا وندمًا على فُقدها غيلة .
وليت أقتصر الأمر على الرجال والنساء والأطفال ، وانما عمَّ الكلاب والقطط والدجاج ، فجميعهنَّ صُعقهنَّ بالنبأ ؛ كيف لا وقد كسى الوجوم الجبال والشجر والبيوت ، كما وبدت السماء كئيبة ، بل ولأول مرة شوهد قوس قزح بلون واحد أسود .
مضى اليوم الأول ، والثاني ، والثالث والبقرة أشبه بفص ملح وذاب في محيط من التكهنات والظنون والتساؤلات . تبخَّرت كل هذه الأفكار وبدأ اليأس يتسرب لذهن الجيران ، بُعيد أن نفد جهدهم وصبرهم في عناء البحث .
أمَّا أم محمد فظلَّت وقتًا متمسكة برجاء عودة بقرتها للحضيرة ؛ لكنها لم تُعد ، ولم يُعثر على شيء من رفاتها أو يستدل للرسن العالق في رقبتها ، فما من مكان إلَّا وقصدته ، بما في ذلك كهف الجبل المنيف المطل على القرية ، وسبق العثور فيه على بقايا عظام قيل إن ضبعًا افترسها خلال الأعوام الفارطة .
وحين يأس الجيران ومعهم أمُّ محمد ، جاء الخبر اليقين من لسان لص كان منتشيًا ، فتحت خدر الكحول أو الحبوب شرع الشاب يحصي بطولاته هو ورفاقه اللصوص .
تحدث وبمزاج رائق لم يستطع أحدًا من الحاضرين وقفه ، أو ضبط هذيانه ، أو تدوين جُلَّ مغامراته الإجرامية المروعة والفاضحة .
نعم ، تكلم عن سرقته وزملائه لبقرة الإنسانة الطيبة ، وكيف أنَّهم ساقوها في جنح الظلام إلى حيث عقروها خلسة ، ومن ثم مزقوها كذئاب جائعة ، ووزعوها أسهمًا وعلى اسماء صارت من ذوي الجاه والسطوة والشهرة في وقتنا الراهن .
وقصة البقرة لم تنته عند حد الذبح وإنكشاف أسماء العصابة ، ومن عاونهم أو شاركهم وليمة العشاء الآثم ؛ وإنَّما أخذت منحى دراماتيكي تراجيدي كوميدي ، فلا أحد يستذكرها الآن إلَّا وتجده باكيًا وضاحكًا في الوقت عينه .
فما كان سائدًا من اعتقاد رسخ في أذهان الكثير زال بمضي الزمن ، فاللصوص ومن اعانهم على سرقة البقرة وذبحها وتشاطر لحمها لم يحاكمون ، أو يسجنون ، أو يقتلون ، أو يموتون ، أو على الأقل يسقمون بسهام ألسنة الناس القادحة أو المتضرعة للسماء .
فأيًا من هذا العقاب لم ينزل بهم ، فعلى العكس من ذلك ، فكل من تناول لحمة البقرة ليلتئذ ارتقى منصبًا ، أو مكانة ، أو نال حظوة وشهرة لم يحظ بها أحدًا قبلهم أو بعدهم .
في آخر مرة شاهدت أحدهم وقد صار موكبة جبهة كاملة من الجُند والأطقم والمصفحات ، أمَّا أملاك هؤلاء فباتت كاثرة ومنتشرة في كل الأمكنة ، فإين حللت أو ذهبت ستجد عقاراتهم أو فللهم أو سياراتهم أو أسلحتهم .
والمثير في القصة أن سخط النَّاس وقذعهم تبدل في عشية وضحاها إلى ثناء وإحسان ، وذاك اللص الفار من الوجوه والعدالة بات محط دهشة وإعجاب اغلب المظلومين . ولحد أن السماء حارت بأمرهم ، كما ولعنتها لا ندري بمن أحلَّت ووقعت .
وقبل أيام سمعت أحدهم مؤنبًا شاب عاطل عن العمل قائلًا : كـنت أكلت لحمة من بقرة خالتك امُّ محمد ، فلو انك فعلت لظفرت بالجاه والسطوة مثل أولئك الفتية الشجعان .
والحقيقة أنني وبعد أن سمعتُ بقصة أكلة لحم البقرة المسروقة ، وكيف تطاولت أسمائهم ، وتضخمت رؤوسهم ، وانتفخت بطونهم حتى حجبت ضوء السماء ؛ صرت الآن مذعورًا فزعًا على نفسي وعلى أهل قريتي .
فالسطوة والنفوذ والغنائم صارت جائحة أخذت ألباب كثير من النَّاس ، فكل من فاته ذينك العشاء الآثم ، تراه الآن نادمًا يلعن خوفه ويتحسر على دموعه السائحة على البقرة .
أما الأخطر في القصة ، فإن بقرة أمُّ محمد باتت بقرات تذبح وتوزع علانية ، كما ولحمها بسعر التراب ، ومتوافر في الأسواق والبقالات والصيدليات ، فكل من يروم الجاه والسلطان والشهرة باتت اغلى أمنية له الظفر بنتفة لحمة ..