الجمعة قبل الفارطة حمل جثمان أُمّه مع زمرة المشيِّعين ، كانت دموعه مكتومة في عينيه ، أخذ يصافح المواسين بذهن شارد عالق بامرأة ليست كبقية النساء ، هي أُمّه دفق حياته ، وشريان وجوده . الولد البار بوالديه ، لم يكن يعلم ، ولا نحن كنَّا ندري أنه سيلحق بأُمّه ، ومن يعلم بالسرائر غير الله ؟! فمن كان يعلم أن ذبحة لعينة تتربص بفؤاد عادل بينما هو جالس يستقبل ويودع جموع المعزِّين ؟! . يبدو أن صديقي لم يطب له المقام بعد رحيل أعز مخلوقة ، كان شوقه أكثر من أي شيء أخر ، لهذا أختار الجمعة التالية كميقات لابد منه ، فلم تكن الأزمة ستنال منه لولا أنه حزم أمره وقرَّر اللحاق بمن لا يستطيب العيش دونه . عادل صنف نادر ، لا يشبه أحد منّا ، في إحسانه كوكبًا لا تخطيه عين مبصرة ، في المعرفة بدرًا متلالئًا يرشد الغاوين والتائهين ، في داره ورفقته شيخًا كريمًا يؤثرك على نفسه ، في النَّاس ذو همّة ونشاط لإصلاح ذات البين ، في عمله مجتهد مثابر وبصمت عجيب .
أتذكر كيف أنه ظل ينقش في ذاكرة ولده البكر والوحيد " عبد الكريم " حتى أتم إعراب كامل المصحف . كان الولد طفلًا لا يتعدى الثامنة ، ومع ذلك قدر له إعراب القرآن سورة سورة ، وآية آية ، وبكل يسر وسلاسة . كان ضليعًا في مادة النحو ، ولا يبخل ابدًا في نشر الموضوعات القيّمة المفيدة ، فطوال عشرة اعوام ويزيد لم يرسل يومًا منشورًا أو يكتب تعليقًا إلَّا ووجدت فيها الفائدة والمتعة والقيمة .
نعم ، الدكتور عادل علي ناصر كان ضوءًا في محراب العلم والمعرفة ، وجهًا رائعًا في حياتنا ، أنه أنموذج للإنسان الراقي والمميّز والنظيف ، إذا تحدث في الدين أسرك بتدينه المتسامح والناضج ،أعجبك بتمثله لقيم الاسلام وآدابه ودونما غلو أو تنطع ، بل ويؤديها بنفس طيبة وروح مرحة .
أصدقكم أنني لا أحتمل رؤية قرية الحميراء ، أتساءل في قرارة نفسي : كيف السبيل الى مكان غادره الفرح والنقاء والبهاء ؟ كان عادل وجهًا جميلًا يشعرني بالألفة والمحبة . لدي احساس غريب ، وهو أن الشجر والحجر يشعران بلوعة الفراق مثلي ، وأنهما ينتحبان الآن وبصمت مثلما كان فعل صديقي الجميل أبا عبد الكريم حينما حمل حزنه وكربه وهو يواري جثمان أُمّه في مثواها الجمعة قبل الماضية .
وداعًا يا أنبل من عرفتهم ، وأنقى من جايلتهم ، لست وحدي من يفقدك ، فمحبوك كُثر ، فطلابك وزملائك في كلية التربية يشاطروني الحزن ، اصدقائك وندمائك في مجلس القات ، أهلك وذويك وكل من عرفك بكل تأكيد حزنى مفجوعين من رحيلك المؤلم والمبكر .
ختامًا .. خالص العزاء لوالد الفقيد الحاج علي ناصر لسود ، وإلى نجله عبد الكريم وشقيقته ، وإلى زوجته الكريمة ، وإلى أشقائه عبد الحي وجلال وأنور وعبد الرقيب ، وإلى أبناء الخال رضوان ومحمد وعبد اللاه وغسان مسعد ناصر وإلى آل لسود كافة . داعيًا الله أن يتغمد الفقيد برحمته وغفرانه ، وأن يسكنه الفردوس ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..